١٢/٢٩/٢٠١٠

ضجيج أبيض White Noise

أكتب هذه الكلمات وأنا أستمع إلى رائعة "البحر بيضحك ليه" للعظيمين نجم و إمام, عسى أن أغترف من بحرهما العذب بعض كلماتٍ أملأ بها بياض هذه الصفحة علّي أسقي بها ذهني وأذهانكم للحظات, وكي أخلي مسؤوليتي أنصح بسماع الأغنية أثناء قراءة هذا المقال علّها تغطّي على رداءته وصعوبة هضمه و تكون كجرعة الماء مع الدواء المرّ..
"البحر بيضحك ليه
وأنا نازل أدّلع أملا القلل"
لا يعتبر الكثير من الناس الأبيض لوناً, وربّما يعتبرونه "اللالون" أو الفراغ اللوني إن صحّ التعبير, رغم أنّ اللون الأبيض هو اجتماع كلّ الألوان كما عبّرت تجارب نيوتن. وترى أغلبُ الحضارات أنّ الأبيض رمزٌ للنقاء رغم أنّ كلّ الألوان _دون استثناء_ لطّخته ودخلت في تركيبه بنسبٍ محدّدة, والأبيض هو اللون الوحيد الّذي _حسب ظنّي_ يراه الجميع بنفس الكيفيّة, ويكون وقعه في أذهانهم واحداً, بينما من المحتمل جدّاً أنّ كلّ واحدٍ منّا يرى أيّ لونٍ آخر بشكل مختلف عمّا يرى الآخرون هذا اللون, فمن يضمن أنّني أرى الأحمر أو الأخضر كما تراه أو تريه؟
"البحر غضبان ما بيضحكش
أصل الحكاية ما تضحكش
البحر جرحه ما بيدبلش
وجرحنا ولا عمره دبل"
يُولد الإنسان بنفسيّة بيضاء, ومع الأيّام قد تختلّ نسبة أحد الألوان _المكوّنة للأبيض_ فتتلوّن نفسيته, أو حتّى قد تفقد كلّ لون فتصبح سوداء, فيفقد إنسانيته. والروح تسكن تعابير وجه الإنسان, فانعكاس روحه عند الغضب والسعادة والحزن يظهر على وجهه, وفقط في الوجه يتواجد البياض الظاهر من جسم الإنسان المتمثّل قي بياض عينيه وأسنانه, وأستغرب مِن الّذي يضع أقنعةً على وجهه فيُخفي روحه, رغم أنّ الوجوه لا تشعر بالبرد كالأطراف, هل شعر أحدكم بالبرد في وجهه ودعكه أو قرّبه من نار المدفأة؟ ولكنّني الآن للأسف أرى أنّ البرد قد نخر وجوهنا فارتدينا الأقنعة وكأنّها ستجلب الدفء إلى أرواحنا, فطبّعنا مع الزيف فأصبح سمة طبيعيّة عندنا..
"مساكين بنضحك من البلوة
زي الديوك و الروح حلوة
سارقاها من السكين حموة
و لسة جوا القلب أمل"
وانتشر الزيف بيننا, وأصبح عند البعض بمثابة طرفٍ خامسٍ _إضافةً إلى ذراعيه وساقيه_ يصعب بتره, فسكنهم كالطابورٍ الخامس داخلهم, حيث يطغى أحد الألوان فيصبغ النفسية وتصبح كالعملة المزيّفة, قد تبتاع شيئاً ولكنّها تبقى مزيّفة. وأشدّ مظاهر الزيف كما أرى هو الزيف في الدين, فمثلاً أرى أنّ عدد من يصلّون كبير, وهنا تحتلّني أسئلة من قِبَل هل حقّاً يدرك هؤلاء معنى ومغزى الصلاة؟ وإن كانوا يدركون فلمَ مجتمعاتنا بهذا الشكل المزري؟ وقد سألت كثيراً عن هذا المغزى ولم يملأ أحدٌ "قُلل" حيرتي, فالله لا يحتاج إلى صلاتنا, إذن فهو فرضها علينا من أجلنا, وبقليلٍ من التفكير وجدت أنّنا مخلوقات جُبلت بماء النسيان, وفي أحيانٍ كثيرة ننسى أخلاقنا أو تتلوّن أنفسنا, فتأتي الصلاة في أوقات متباعدة من اليوم لتذكّرنا او أنّنا قد نسينا الأخلاق, وتعيد نسب الألوان إلى طبيعتها, كما تتزوّد الطائرات بالوقود, فنحن طائرات تطير في كوكب تحكمه قوانين جاذبية واحتكاك, فلا مجال لأن تستمرّ في الطيران بفعل القصور الذاتي كما لو كانت في الفضاء, فدون وقود تسقط. وما يهمّ فعلاً هو الفترة بين صلاتين, ولكنّ الكثيرين يولون فترة دقائق الصلاة القليلة أهميّة أكبر من الساعات الطوال بين الصلوات, على اعتبار أنّ الصلاة حركات نؤدّي بها واجباً, وهؤلاء كمن يسقي زرعه بماء البحر وينتظر أن يحصد قمحاً يصنع منه خبزه..
"قللنا فخّارها قناوي
بتقول حكاوي و غناوي
يا قلّة الذل أنا ناوي
ما شرب و لو في المية عسل"
مشكلتنا كأمّة أنّنا نتطلّع قُدُماً إلى الأمس! إلى التاريخ, أمّا المستقبل فلا نفكّر فيه, على اعتبار أنّنا باقون أبداً, رغم أنّ الذلّ قد نصب خيمه بيننا, وغدا أعداؤنا يسفكون دماءنا إلى جانب شربهم مائنا وعسلنا. وإن وُجد من يفكّر في المستقبل, نجد أنّه يَنظر إلى ذلك المستقبل بنظرة تشاؤميّة سوداوية خالية من أيّ لون, فالمنحنى البياني للأمّة هذه الأيّام في سقوط لا هبوط فحسب, كما تسقط الطائرة بفعل الجاذبية حين يفرغ منها الوقود..
"ياما ملينا وملينا
لغيرنا وعطشنا ساقينا
صابرين وبحر ما يروينا
شايلين بدال العلة علل"
ولجعل الأجيال القادمة تفكّر في المستقبل قليلاً, أقترح إضافة مادّة المستقبل إلى جانب مادّة التاريخ في مناهجنا التربوية, لأنّنا _كما أرى_ بدلاً من إنشاء مصانع سيّارات وصواريخ, افتتحنا مصانع لآلات الزمن, نتنقّل بها! فعسى أن يفكّر بعض أفراد الأجيال القادمة في المستقبل بطريقة بيضاء..
"في بالي ياما وعلى بالي
واللي بيعشق ما يبالي
ما يهمنيش من عزالي
يا حلوة لو مرسالي وصل"
أردت قول هذه الكلمات وطرح هذه الآراء رغم أنّني أعلم أنّ الكثيرين قد يخالفونني, ولكن أتمنّى لو كان بعض هذه الآراء صحيحاً, عسى أن يضيف إليها آخرون, حتّى نحاول النهوض بأمّتنا, ونكون كالجزَر نقوّي نظرها كي تتطلّع إلى المستقبل دون الحاجة إلى نظّارات أو عدسات ملوّنة بعد أن يبدّلوا جلدها ويصبغوا شعرها.
وفي النهاية أودّ القول أنّني أحسد البطريق القاطن في القطب الجنوبي, لأنّ البياض هو جلّ ما يراه, وأحسده أكثر لأنّه لا يستطيع الطيران فلا يبرح ذلك البياض, عسى ألاّ يسلبه التغيّر المناخي بياضه.
رغم التحيّة لمناضلي تونس, ولكنّني لن أتكلّم هذه المرّة في السياسة المباشرة لعالمنا العربيّ لأنّها الإجابة الوحيدة لسؤال: "البحر بيضحك ليه
وأنا نازل أدلّع أملا القلل"!!

يمكنك معرفة المزيد عن الضجيج الأبيض من هنا..