١٠/٢٢/٢٠١٠

رعد الفضاء.. و الأرض


أهدي هذا المقال إلى أختي رحاب, وهي أعظم أخت وأصدق صديقة في الدنيا قاطبةً, كما أهديه إلى أبناء جيلي, وإلى كلّ من أحبّ كتاباتي لأنّني أحبّ قراءته, وإلى الأرض وحجارتها وإليك عزيزي القارئ.

أعتذر عن عدم الكتابة في الفترة الماضية فقد كان عقلي مشلولاً, وأعد نفسي أمامكم بأن أكتب بانتظام.

أسمع دوماً مقولة "العلم في الصغر كالنقش على الحجر" و أشعر بعدم ارتياح عند سماعها, ففيها من عدم دقّة ما لا يمكن لمسه بسهولة, ربّما قيلت لأنّنا قومٌ نعشق السجع! ولكن حين نراقب وعي الطفل نجد أنّه طيّع سهل التشّكل, وليس حجراً كما يقولون إن ضربنا فيه إزميلاً لن يعود إلى سابق عهده, وهنا سأضع مقولة جديدة تريحني _وتريح محبّي السجع كذلك_ وهي "تعليم الصغار كصناعة الفخّار". حيث يمكننا تشكيل الفخّار كما نريد و وضع تعديلات عليه, قبل وضعه في فرن المراهقة حيث يخرج إنساناً بكلّ ما فيه من حرفية في التصنيع يحفظ نقاء الماء, أو رداءة في التصنيع تكثر فيه الثقوب و السحجات والأثلام ممّا يسهّل كسره لاحقاً.
قد لا نختلف إن قلتُ أنّ الطفولة بالنسبة إلى شخصيّة الإنسان هي الأساس, وفيها تتكوّن نواة شخصيته بكلّ ما فيها من وعي و خير و شرّ و عُقد و مزاجية و غيرها, ثمّ تنمو هذه الأشياء مع نموّه, ولن نختلف إن قلنا أنّ تربية الإنسان في سِنيّ عمره الأولى تشكّل تصرّفاته عندما يبلغ سن الرشد, فمثلاً إن علّمنا الطفل أنّ السرقة سيّئة, وأقنعناه بذلك بشكل عملي, فلن يسرق أبداً.
أردت من هذه المقدّمة أن ألقي بعض الضوء على كيفيّة تشكّل نفسيّة الإنسان في طفولته, فهناك عدّة عوامل تساهم في هذا منها _أو أهمّها_ خلال ربع القرن الأخير الرسوم المتحرّكة. طبعاً معظم أبناء جيلي _ومعظم القرّاء الأعزّاء هنا منهم_ شاهد رسوماً متحرّكة وكوّنت لديه وعيٌ ما وشكّلت جزءاً من شخصيته. وسأتكلّم هنا عن نفسي, ففي بداية تكوّن الوعي لديّ, كانت الانتفاضة الأولى
مندلعة في فلسطين, وكان أهمّ ما يميّزها هو أطفال الحجارة, وبما أنّ طفولتي كانت خارج الوطن العربي, فقد كانت هذه الانتفاضة وهؤلاء الأطفال يساهمون في تشكيل وعيي بمعرفة الحقّ, حين كنت أشاهد هؤلاء الأبطال بالعشرات يرمون حجارتهم على الجنود الصهاينة, وهذا ثبّت لديّ يقيناً أنّ تلك الأرض لنا ومن حقّنا, حيث أنّها تحارب معنا حين يرمي هؤلاء الأبطال بها _حجارة الأرض_ على المرتزقة فيردّ هؤلاء برصاص وقنابل صُنعت وجاءت من وراء البحار, وهذا دليل على أنّ تلك الأرض لنا. وفي ذلك الوقت أيضاً كنت أشاهد "جرندايزر", وهو بطلي الخيالي المفضّل دون منازع, صحيح أنّ صنّاعه من اليابان, ولكن من دبلجه كان على درجة من الحرفيّة حيث جعله عربيّاً, ومن لا يعرفه هو تقريباً جزء آخر من "مازينجر" حيث أُدخلت شخصيّات منه إلى جرندايزر. تتلخّص الحكاية بكوكب فليد الّذي دمّره طغاة فيجا, فلجأ دوق فليد أو أمير ذلك الكوكب إلى الأرض, ومن هناك عمل بمساعدة بعض الأرضيين على مقاومة جيش فيجا الّذي أراد التوسع باحتلال الأرض, و هذا يذكّرني بفلسطين حيث سيطر عليها الأوغاد القادمون من بعيد, وطردوا شعبها, فلجأ هذا الشعب إلى الجوار كي ينطلق في مقاومة المغتصب. وقد اتّخذ دوق فليد اسماً حركيّاً في الأرض وهو دايسكي, وهذا يذكّرني بمعظم رجالات الثورة يأسمائهم الحركية, وكان من آوى الدوق وساعده هو الدكتور آمون _لا أعرف لمَ يذكّرني وجهه بعبد الناصر!_ وهنا أرى أنّ الانتفاضة ومشاهدة جرندايزر شكّلا لديّ وعي المقاومة والدفاع عن الحقّ.
عرف صنّاع المسلسل ومدبلجوه من العرب كيف يجعلونه عربيّاً بامتياز, حيث انطبع صوت جهاد الأطرش _الّذي أدّى صوت دوق فليد_ في ذاكرتي, حين كان يطلق في وجه الأعداء صرخات الحماسية بصوته الجهوريّ القويّ, كما انطبعت أغنية جرندايزر الرائعة بكلماتها ولحنها, واتّخذت مكانها في خلايا دماغي الرمادية بصوت سامي كلارك الشجي ومعها الأغاني الإضافية, واستمتعت _ومازلت أستمتع على فكرة_ بسذاجة تامبي, و إصرار كوجي ونقاء هيكارو _ابنة تامبي_ الّتي يبدو أنّ والدتها هي ملكة جمال الكون كي ينجب تامبي بقبحه ابنةً بجمالها! كما أحببت ذكاء جورو وشفافية ماريا أخت الدوق.
لا أعتقد أنّ الرسوم المتحرّكة هذه الأيّام تحمل القيم ذاتها الّتي كانت تقدّمها الرسوم المتحرّكة في السابق, وهنا أخاف على الجيل الّذي يتشكّل الآن, فإذا كان معظم جيلنا الّذي شاهد تلك المسلسلات العظيمة ساكتاً عن حقّه غير مدرك له فكيف يكون حال الجيل القادم؟! وهنا أريد القول لجيلنا من شابّات وشباب بما أنّنا كبرنا وغدونا على حافّة الزواج والإنجاب أنّ واجبنا و ما يصنع قيمتنا في الحياة الآن هو تنشئة أبنائنا القادمين تنشئةً تجعلهم يؤمنون بحقّهم, وتربيتهم بطريقة تجعل منهم بشراً بكلّ ما للكلمة من معنى, كي لا يمضي وطننا وعالمنا من أسوأ إلى اسم تفضيل لم يٌخترع بعد. هذا هو واجبنا الوحيد في الحياة الآن بما أنّنا لا نستطيع إعادة حقوقنا, فلنربّي جيلاً يستطيع, ولنكن صانعي فخّار حرفيين, نخرج فخّاراً جميلاً قويّاً يحفظ الماء طاهراً عذباً داخله, فنكون بذلك قد قدّمنا لوطننا شيئاً ما وربّما تكون هذه أعظم خدمة يمكن أن نقدّمها له.