١٢/٢٥/٢٠١١

نويل

عزيزي بابا نويل, أو كما كنت أسمّيك في صغري في بلاد البلقان "ديادو مراس" أو الجدّ مراس,

أعلم أنّ آخر رسالة وصلتك منّي كانت قبيل عودتي إلى وطني منذ 17 عاماً, ربّما لا تذكُرني, حينها طلبتُ منك درّاجةً ناريّةً فوصلتني درّاجةٌ هوائيةٌ, فاعتبرت حينها أنّ سنّك أثّر على نظرك ولم تقرأ ما طلبته منك بوضوح وإنْ كنت أشكرك عليها فقد كانت جميلة. بدايةً أعتذر عن انقطاعي عن الكتابة إليك طوال هذه المدّة, ربّما كان ذلك لأنّني اعتقدتُ أنّني لن أحتاج إلى شيءٍ منك بعد عودتي إلى وطني حيث خزائن أحلامي, أو لأنّك لن تستطيع الوصول إلى هنا بما أنّك "بيرسونا نان جراتا" أو شخصٌ غير مرغوبٍ فيه من قِبل الكثير من أهل وطني رغم أنّك ذو لحية, أو لأنّني اعتبرتك رمزاً للعولمة بردائك الأحمر الّذي أهدته لك شركةُ المياه الغازية العالمية المشهورة كي تصبحَ لها أيقونة رغم أنّ الأحمرَ كان رمزاً للرفاق في المعسكر الشرقي, أو ربّما لأنّني خجلت أن أرسل إليك أطلب ألعاباً حين رأيت حال معظم الأطفال في وطني المحتاجين إلى الخبز والحليب وإلى ما يستر أبدانهم, ولم يكن لديّ نقودٌ تكفي لإرسال رسائل إليك في القطب الشمالي عن كلّ واحدٍ منهم, ولكنّني الآن أرسل إليك طالباً أن تركب غزلانك الطائرة لتأتي وتلقي نظرة على أطفال وطني, فقد كانوا طيّبين طوال العام ولم يؤذوا أحداً ويستحقّون منك على الأقلّ نظرة, لا يريدون ألعاباً فلديهم ما يكفي من الألعاب "النارية" المذهلة, والّتي ولفرطِ روعتها تفتح _حرفياً_ باب الجنّة لكلّ من يراها منهم, وإن كانوا محتاجين لأحضان أمّهاتهم أكثر من كلّ أبواب الجنّة في سنّهم هذا, فالجنّة تحت أقدام الأمّهات فما بالك بأحضانهنّ, وتلك الألعاب الناريّة العجيبة تصنّعها شركاتٌ كتلك الّتي أهدتك رداءك الأحمر الّذي ربّما كان مغموساً بشيءٍ من دماء أطفالنا! أحضر معك زوّادتك من الطعام حين تأتي فهم لن يتركوا لك البسكويت والحليب على رفّ المدفأة إن كانت موجودة, فمعظم وطننا يستورد القمح والألبان رغم إمكانية توفيرهم, ومعظم أطفالنا بالكاد يحصلون على كفايتهم منها, ولا تبحث عن مدخنة, ففي البرد يلتحف معظم أطفالنا أحلامهم فوق أغطيتهم طالبين دفئاً أكثر, كما لا تبحث عن شجرة ميلادٍ, فالميلاد هنا هو موتٌ بعد حين, والأشجار هنا تأبى دخول منازل يدخلها الحزن والجوع فهي لا تريد أن يتحوّل ما تحصل عليه من مياهٍ قليلة إلى دموع, ولا تغضب إن خافوا منك إن رأوك, فهم لا يحملون ذكرى طيّبة للرجال الغرباء, ألق نظرة عليهملترى إن كانوا يستحقّون بعضاً من عطفك وقد تخلع عنك رداء العولمة وتلبس رداء الإنسانية أو قد تجلب شركاتك لتقضي على من تبقّى منهم كي لا يسمع العالم نواحاً بعد الآن. لن أُتعب نظرك بعد الآن

٩/٢٢/٢٠١١

دائرة

ملحوظة: كُتب هذا المقال أو هذه الرسالة أكثر من أربع مرّات ليخرج/تخرج بهذه الصيغة الّتي أرى أنّها لم تكن على مايرام كالنبيذ الّذي لم يُعتّق كفاية

عزيزتي, كتب جورج أورويل ذات مرّة: "إذا كان التحرّر يعني شيئاً فهو الحقّ في أن تقول للناس ما لا يودّون سماعه" وأودّ أن أضيف إلى مقولته أنّ التحرّر هو أن تقول شيئاً لم تكن تودّ لأحدٍ سماعه, لذا سأكتب إليك اليوم ما لم أكن أجرؤ على قوله جهراً في السابق. لا أدري لمَ لم تكن الجرأة حاضرة, ربّما كان ذلك لأنّني كنت أعتبر أنّ ما سأكتب عنه اليوم شعورٌ فرديٌّ خاصّ لا يدرك أبعاده إلاّ صاحبه, أو لأنّني اعتبرت أنّني لن أضيف شيئاً إليه بما أنّ أشجار غاباتٍ بمساحة قارّاتٍ قد تحوّلت إلى ورقٍ ليُكتب عليه عن الموضوع بكلّ اللغات الحيّة والميّتة والمريضة, وبكلّ طرق واتّجاهات الكتابة من اليمين إلى اليسار وبالعكس ومن الأعلى إلى الأسفل وبالعكس, وإن كانت هناك لغةٌ تُكتب بطريقة ثلاثية الأبعاد لما كان الفضاء الديكارتي ليتّسع للكلمات الّتي كُتبت وستُكتب عن ذلك الموضوع. وربّما كان بعض الخجل يا عزيزتي هو ما كان يمنعني عن الحديث أو الكتابة عن الموضوع, ولكن يبدو أنّ سقف جسارتي قد زال بزوال سقف ميدان التحرير فسقط كلّ ما كنت أعتبره "تابو". ولكن مهلاً,, يبدو أنّ الخجل مازال يعتريني حيث لم أذكر ماهية الموضوع إلى الآن بعد أكثر من عشرة سطور! والموضوع يا عزيزتي هو ما جعل ومازال يجعل القلوب تخفق والعقول تذوب, الموضوع هو ذلك الكائن أو الشعور أو المصير المُسمّى حبّاً.
ودوماً يا عزيزتي كنت أكوّن رأيي ورؤيتي عن أيّ أمر بعد النظر إليه من زواياه المختلفة, فأعرف عدد أضلاعه وشكله لأستنتج بعدها مساحته فأدركه, ولكنّني حين وقفت أمام الحبّ وجدتُ أنّ له أضلاعاً وزوايا لا نهاية لعددها, فمهما كانت الزاوية الّتي أنظر إليه منها أجد ذات المنظر وذات الشيء بفمهوم مختلف, ومن خلال ذلك أدركت إنّ كانت كل الأمور في حياتنا مضلّعة ينبغي إدراكها من خلال النظر إليها من زوايا عدّة فإنّ الحبّ هو مضلّع لا نهاية لعدد أضلاعه أو ببساطة هو دائرة, ندرك بنظرة واحدة أنّه هو لأنّه لا يختلف باختلاف الشخص أو الثقافة أو الحضارة, فالدوائر متشابهة دوماً ويكمن الاختلاف في مساحتها فقط, وبما أنّني أعتبر أنّ الدائرة هي أكمل الأشكال وأنّ كلّ شيءٍ في الكون يدور حول شيءٍ ما, فإنّني أظنّ أنّ الحبيبين لا يقعان في الحبّ كما نعتقد ولكن يدوران حول دائرة خلقاها وهي حبّهما فتكون كطاولة الملك آرثر المستديرة حيث الجميع متساوٍ فلا فضل لأحدٍ على أحد, وحين يتمّان ارتباطهما يدخلانها, والجميل أنّهما حين يدخلانها لن يجدا فيها زوايا ينحشر فيها أحدهما فيكون للآخر الأفضلية, وإن سمحتِ لي يا عزيزتي بالتوسّع سأقول أنّ الانتماء والهوية تحدّدهما دائرة كذلك, فإذا أحببتُ وطناً أو جماعةً عليّ الدخول إلى الدائرة الّتي تضمّ ذلك الوطن أو تلك الجماعة, فيتحدّد انتمائي بكوني داخل تلك الدائرة, ولكن هذا حديثٌ آخر. والغريب يا عزيزتي أنّ رمز ارتباط الحبيبين ودخولهما دائرة الحبّ _أي الزواج_ منذ عصر الرومان هو دائرة تحيط بالبنصر وتسمّى خاتماً أو "دبلة" باللغة الدارجة, كما أنّني أظنّ أنّ الأخ كيوبيد _إله الحبّ عندهم_ لم يكن يصوّب سهامه إلى ذلك الشكل الّذي نعتبره قلباً أو رمزاً للقلب, بل كان ككلّ الرماة المحترمين يصوّبها إلى هدفٍ دائري _ولو علم الناس إلامَ يرمز ذلك الشكل "القلبيّ" حقّاً لحدّوا من استخدامه!_, وإن كان الحبّ علماً له معايير وقوانين رياضية يا عزيزتي لكانت الدائرة هي محور ذلك العلم, لذا انتظري منّي يا عزيزتي كمّاً هائلاً من الدوائر الشاسعة الّتي يمكنها احتواء كونين أو ثلاثة, كما سأنتظر منك دوائر بمساحة مدار المذنّب هالي.
عزيزتي, كان يلفتني دوماً بيت أبي تمّام الّذي قال فيه
نقّل فؤادك حيث شئت من الهوى,,,,, ما الحبّ إلاّ للحبيب الأوّل
وكنت أستغرب كيف اعتبر الرجل أنّ حبّ المرء كعود الكبريت يشتعل مرّة واحدة فقط, ولكن حين تعمّقت في قراءة البيت وجدتُ أنّه لم يكن يقصد أنّ المرء حين يحبّ مرّة لن يحبّ مجدّداً, ولكن ما قصده كان أنّ المرء حين يُحِبّ (بكسر الحاء) ويُحَبّ (بفتحها) ستكون هي الأولى والوحيدة, حيث سيصبح حبيباً, والحبيب يختلف عن المحبوب, فالحبيب على وزن قريب, أي عندما تكون قريباً من شخصٍ ما سيكون هو بالضرورة قريباً منك بدوره, والحبيب كي يكون حبيب شخصٍ ما, على ذلك الشخص أن يكون حبيبه كذلك وإلاّ لكان محبوباً لا أكثر, فالعلاقة هنا ثنائية الاتّجاه, ومن هذا الحديث عن القرب المتبادل والاتّجاه الثنائي أنتقل يا عزيزتي إلى تصوّرٍ عن الطريقة المُثلى للتعامل والتفاعل بين حبيبين, حيث أتخيّل أنّ الحبيبين _أعتذر على التعبير_ برميلان, وأنّ على كلّ برميلٍ فيهما ملء الآخر دون الالتفات إن امتلأ هو, بمعنى آخر لا ينبغي على الحبيب انتظار أيّ شيءٍ من حبيبه وعليه العطاء فقط, فإذا اتّبع الحبيبان مفهوم العطاء الصرف هذا وتنافسا فيه سنجد أنّ كلا الحبيبين سيأخذان كفايتهما وسيُملأ البرميلان, أمّا إن انتظر أحد البرميلين أن يُملأ ولم يقم بدوره في في ملء البرميل الآخر سنجد أنّ نصف مياه البرميلين قد انسكبت على الأرض وهُدر نصف الحبّ بينهما قبل أن يُهدر كلّه مع الزمن مع فقدان البرميل الثاني لمائه حيث أنّه لم يُملأ وكما يقولون فاقد الشيء لا يعطيه. فلِيكون الحبّ أصيلاً عليه أن يكون على سويّة واحدة بين الحبيبين كالماء في تجربة الأواني المستطرقة أو كسطح ماء جميع البحار حيث سطحها جميعاً على سويّة واحدة مهما اختلفت أعمقاها. وقبل أن أختم أودّ القول أنّ المرء يكون ضعيفاً إن لم يكن الحبّ أقوى منه, وقوّة الحبّ هي ما تحمي كرامة المرء وكرامة حبيبه, فبنفس مفهوم العطاء يقوم كلّ حبيبٍ بحماية كرامة حبيبه, فتُصان الكرامتان الّتان تشكّلان عملياً كرامة واحدة. وفي النهاية يا عزيزتي أقول أنّ للحبّ أضلاع لا نهاية لعددها كما أسلفت, فلا يمكن استيعاب مفهومه أو قول كلّ شيءٍ عنه من خلال رسائل أو مقالات وإن بلغ عدد كلماتها عدد ذرّات الكون, لذا لا يمكنني قول كلّ شيء مهما تحدّثت, ولكنّني أعدك أنّني سأحدّثك عن الكثير عنه في حياتنا وفيما بعد حياتنا, دائرتي تتّسع دوماً بابتسامتك,,, دائرة يخترقها سهم

٨/٢٥/٢٠١١

آكلو البطاطا


يستضيفنا الرائع فان جوخ اليوم على مائدة أفضل أعماله كما يصفها وهي لوحة "آكلي البطاطا" _أو البطاطس باللهجة المصرية_ لننهم بأعيننا وجباتٍ عديدة خلافاً لأهل "آكلي البطاطا" الّذين يأكلون البطاطا فقط। نتمعّن في اللّوحة فنجد ألواناً حميمية تحتضنها العين وتأسرها وكأنّ الشبكية خُصّصت لاصطياد هذا النوع من الألوان, ألوانٌ تجلب لك شعوراً بأنّها ألوان "إنسانة" كأنّها نحن! قابل معي أبطال اللوحة, عائلة من والدين وثلاثة أبناء اجتمعوا حول طعام العشاء, نتمعّن في الوجوه فنجد أنّها ببساطة نحن! وجوهٌ تعبيراتها تعبيرات إنسانٍ حقيقيٍّ, قد تبدو وجوهٌ غير وسيمة ولكن من قال أنّ الجمال يكمن في الوسامة؟ فقد يأتي الجمال من أشكالٍ غير محدّدة الملامح كشفق القطبين أو حتّى الأميبا, وقد يكون القبح _كلّ القبح_ في أشكال منمّقة كنجمة داود, فالجمال هو ما خلف الشيء وليس الشيء نفسه. نحدّق في وجوه العائلة فنجد أنّ الأب يطلب بابتسامةِ الفلاّح البسيط الطيّب المزيد من الشاي من الأم المنهمكة في صبّ الشاي بعد يومٍ شاق في البيت وفي الحقل, والابنة تنظر إلى أخيها وتشير إلى طبق البطاطا, ربّما تسأله إن كان يريد المزيد, نرى في عينيها تساؤلاً وخوفاً ربّما من غدٍ لا تعرف كيف سيكون, ربّما تحبّ ابن الجيران صديق أخيها ولكن تكتم حبّها في قلبها, ربّما تريد اكتساب العلم ولكن الظروف لا تسمح, ربّما لن نعرف أبداً. الأخ ينظر إلى أمّه ولا يأبه لاخته _متّخذاً دور الأخ الأكبر المتعجرف_ ويطلب من الأم فنجان شاي فهو سيجرعه وسيخلد إلى النوم مفكّراً في أعمال الغد في الحقل أو ربّما في كيفية تحقيق حلمه في الذهاب إلى ميناء روتردام كي يبحر مع سفينةٍ ما ويصبح بحّاراً, لن نعرف أبداً. الابنة الصغيرة أدارت لنا ظهرها وانهمكت في الأكل فهي متعبة من اللعب ومساعدة أمّها طوال اليوم وليس لديها مزاجٌ للّهو مع أمثالنا. جلسة حميمية لعائلة في كوخها الخشبي, وكم تأسرني فكرة العيش في كوخٍ من الخشب, شعورٌ لا يوصف أن تعيش داخل كائنٍ حيّ له روح الشجر لا بين جدرانٍ اسمنتية باردة مصمتة, شعورٌ رائع أن يحميك من الطبيعة الطبيعة ذاتها, الخشب فيه روحٌ ودفء ولن يخذلنا أبداً وكأنّنا في سفينة نوحٍ داخله. العائلة تعمل في زراعة البطاطا وكما نرى فإنّ طعامهم الأساسي والوحيد تقريباً هو البطاطا, والبطاطا هي الطعام الرئيسي _كالخبز عندنا_ في هولندا وتلك المنطقة من شمال أوروبا, وهذه العائلة تأكل ممّا تزرع وزراعتها هي الطعام الأساسي للبلاد, فلو أسقطنا الأمر على بلادنا العربية سنجد عائلة تزرع القمح ثمّ تطحنه فيصبح دقيقاً وتخبز الأمّ ذلك الدقيق فتأكله العائلة مساءً, وهذا كان تاريخاً ولكنذنا الآن كعرب نستورد _للأسف والأسى_ طعامنا الأساسي _الخبز أو العيش أو الحياة_ من بلدانٍ أخرى, وأنا شخصيّاً لا أعرف ماذا تفعل عائلة "آكلي الخبز" العربية طوال اليوم كي تأكل خبزها آخر النهار إن كان خبزها يصلها عبر البحار! ويلٌ لأمّةٍ تأكل ممّا لا تزرع, فلن نجد فيها عائلة مطمئنّة كعائلة آكلي البطاطا هذه, بل ستكون العائلات كلّها قلقة لا تعرف إن كان سيصلها المدد _من الحياة_ غداً كي تأكل الخبز مساءً. حين نأكل ممّا نزرع, سنكتسي ممّا نصنع, وسنصل القمر بما نبتكر, هذه هي الوصفة, وليست صعبة كما أظنّ,, وفي النهاية قبل أن نشكر عائلة "آكلي البطاطا" على استضافتهم لنا, نودّ أن نشكركم جميعاً على استضافتكم لصفحتنا عندكم ونأمل أن يدعو كلٌّ منكم أصدقاءه كي نزيد عدد النجوم في سمائنا ونستنير بكم وتستضيفوننا أكثر فأكثر,, رسمها عام 1885
يمكنكم متابعتنا على صفحة منارة
Link

٧/٣١/٢٠١١

معلّم علّمه الشعب

أُريق الكثير من الحبر خلال العقود الماضية في الكتابة على مذبح الكلام عن جمال عبد الناصر الرجل والإنسان والزعيم, وقد ذهب بعض هذا الحبر هباءً وهدراً لأن ساكبيه كانوا يهاجمون الرجل بكلامهم وكتاباتهم لمجرّد الهجوم عليه أو لغايات بعيدة جدّاً عن مصالح الأمّة, وللأسف التشويه هو قدر الكثيرين من شرفاء أمّتنا, وفي المقابل فقد روى البعض الآخر الصادق من ذلك الحبر قمح ضمير الأمّة حين أنصف ساكبوه الرجل وحين انتقدوه كذلك. لن أكتب كثيراً عن عبد الناصر لأنّ عظمته وهالته أكبر من أن يحتويها مقال أو كتاب أو مجموعة كتب, ولن يمكنني تلخيص ناصر كرجل, فحبّ زوجته له وتربيته لأبنائه وكونه قدوة لزملائه والمال الّذي تركه بعد وفاته وصدق الأغاني والأشعار الّتي كُتبت من أجله واللمسة الّتي يشعر بها كلّ من تعامل معه عن القرب خير ما يلخّص ناصر كرجل, و خير ما يُظهر إنسانية ناصر في رأيي هو ضحكته, فحين ترى صورة له وهو ضاحك تدرك أنّ هذا الرجل إنسان حقيقي, فصفة إنسان لا تظهرها نتائج فحوص ال(دي ان ايه). في ذكرى تأميم قناة السويس, وفي ذكرى استعادة أحد حقوقنا الّتي اغتصبها المستعمرون, أودّ الكتابة قليلاً عن ناصر الزعيم الّذي اتّخذ قرار التأميم, فالرجل كان أوّل حاكمٍ "من أهل مصر" لمصر منذ أن غزا الاسكندر الأكبر مصر في القرن الرابع قبل الميلاد, أي أنّ الرجل خرج من بين ذلك الشعب, فقاد وزملاؤه ثورة عظيمة, وهنا أودّ القول لمن لا يعتبر ما قام به الضبّاط الأحرار ليلة 23 تمّوز-يوليو من عام 1952 ثورة ويسمّيها انقلاب أو ما شابه, أنّ تعريف الثورة هو تغيير يطال كلّ مناحي الحياة يصيب المكان الّذي تحدث فيه, بغضّ النظر عن عدد من قاموا بها أو الطريقة الّتي ثاروا بها, وكما نعلم أنّ الحياة في مصر بعد الثورة اختلفت تماماً عمّا قبلها, ولن أتكلّم عن الفوارق, فالكلّ هنا متعلّم _لأنّ الثورة جعلت التعليم مجّاني!_ ويمكنه قراءة تاريخ مصر قبل وبعد الثورة. وتأميم قناة السويس الّتي سالت فيها ملوحة عرق ودماء المصريين قبل أن تسيل فيها ملوحة ماء البحر هو أحد لاءات عبد الناصر ضدّ الغرب الاستعماري الّتي بدأت منذ مؤتمر باندونج وصفقات الأسلحة الّتي كسرت احتكار الغرب لتجارة السلاح في منطقتنا, وذلك جعل من عبد الناصر عدوّاً للغرب لأنّه ببساطة قال لهم "لا" وأخذ حقّ شعبه منهم, وكلّنا يذكر أنتوني إيدن رئيس وزراء بريطانيا حين أحضر ورقة مغموسة بالحبر الأسود وقال أنّ هذه هي صفحة عبد الناصر.. سوداء, وكان ذلك هو بداية الحبر الّذي اُهدر قبل البارود ضدّ عبد الناصر, وطبعاً ذلك الحبر المسكوب أسكر الرجعيين العرب, وجعلهم يثملون ويعيدون سكب الحبر تلو الحبر ضدّ الرجل حتّى اليوم, حتّى أنّ الغرب شبّهه بأدولف هتلر في طريقة خطابه القومي, وهنا أريد التنويه أنّ قومية عبد الناصر تختلف عن قومية هتلر, فقومية هتلر استعلائية نظرتها فوقية ضدّ القوميات الأخرى, بينما قومية ناصر قومية جامعة هدفها توحيد العرب ولا تستعلي على أيّة قوميات أخرى. ومن صفات ناصر كزعيم أنّه لم ينكسر ولم يرضخ حين هُزم في معركة, بل قاوم وأطلق لاءات الخرطوم ضدّ استبداد واستكبار العدوّ, بينما من جاء بعده _وكان يلقّب ناصر بالمعلّم_ رمى هذه اللاءات في البحر وبدّلها بالرضوخ رغم انتصار جيشه على العدوّ! طبعاً لعبد الناصر أخطاؤه _ومن في التاريخ لم يُخطئ؟!_ ولكن حسبه أنّ أخطاءه كانت نابعة من صدقه, حيث كان يعتقد صادقاً أنّ أفعاله صحيحة وفي سبيل الوطن والقضيّة وإن كان منها ما كان خاطئاً, وهذا يُغفر له بسبب صدقه, وبما أنّ حجم الأعداء وخبثهم كان كبيراً. وأودّ القول أنّني لا أحبّ تعبير "الناصرية" وأعتبرها إهانة للرجل وللشعب الّذي أنجب هذا الرجل, فالناصرية كما يعرّفها أصحابها هي نهج عبد الناصر القومي الاشتراكي فاتّبعوا "الناصرية" من أجل هذا, ولكن نهج عبد الناصر هو نهج الشعب العربي كلّه منذ الأزل, أي أن ناصر هو من كان يتبع تطلّعات الشعب ولم يستحدث شيئاً جديداً, بل جعل تطلّعات الشعب هي أولويته زنهجه, وهنا أقول أنّ عبد الناصر كان قوميّاً عربيّاً اشتراكيّاً سار خلف تطلّعات الشعب, فعلينا نحن كمحبّي الرجل أن نسير خلف التطلّعات الّتي سار خلفها وألاّ نجمّدها في شخصه فتزول, وقد كتبت منذ أيّام أنّهم للأسف ربطوا ثورة يوليو بشخص _وإن كان عظيماً_ ولم يربطوها بأنفسهم فأصبحت تاريخاً! عبد الناصر سار خلف تطلّعات الشعب وعلينا نحن أن نسير خلفها كذلك. في النهاية أودّ القول أنّنا كأفراد _حتّى لو اختلفنا مع عبد الناصر_ ولكنّنا لا نستطيع إنكار حقيقة أنّه أفضل حاكم عربي جاءنا منذ الحروب الصليبية, عسى أن يأتينا قريباً حاكمٌ مثله يؤدّي عمله كخادم للشعب العربيّ وتطلّعاته

لي قريباً مقالٌ عن خلافات عبد الناصر مع خصومه وهو ما كان ومازال يؤخذ عليه بشدّة, فسأحاول تفنيد الأمر

معلّم علّمه الشعب

أُريق الكثير من الحبر خلال العقود الماضية في الكتابة على مذبح الكلام عن جمال عبد الناصر الرجل والإنسان والزعيم, وقد ذهب بعض هذا الحبر هباءً وهدراً لأن ساكبيه كانوا يهاجمون الرجل بكلامهم وكتاباتهم لمجرّد الهجوم عليه أو لغايات بعيدة جدّاً عن مصالح الأمّة, وللأسف التشويه هو قدر الكثيرين من شرفاء أمّتنا, وفي المقابل فقد روى البعض الآخر الصادق من ذلك الحبر قمح ضمير الأمّة حين أنصف ساكبوه الرجل وحين انتقدوه كذلك. لن أكتب كثيراً عن عبد الناصر لأنّ عظمته وهالته أكبر من أن يحتويها مقال أو كتاب أو مجموعة كتب, ولن يمكنني تلخيص ناصر كرجل, فحبّ زوجته له وتربيته لأبنائه وكونه قدوة لزملائه والمال الّذي تركه بعد وفاته وصدق الأغاني والأشعار الّتي كُتبت من أجله واللمسة الّتي يشعر بها كلّ من تعامل معه عن القرب خير ما يلخّص ناصر كرجل, و خير ما يُظهر إنسانية ناصر في رأيي هو ضحكته, فحين ترى صورة له وهو ضاحك تدرك أنّ هذا الرجل إنسان حقيقي, فصفة إنسان لا تظهرها نتائج فحوص ال(دي ان ايه). في ذكرى تأميم قناة السويس, وفي ذكرى استعادة أحد حقوقنا الّتي اغتصبها المستعمرون, أودّ الكتابة قليلاً عن ناصر الزعيم الّذي اتّخذ قرار التأميم, فالرجل كان أوّل حاكمٍ "من أهل مصر" لمصر منذ أن غزا الاسكندر الأكبر مصر في القرن الرابع قبل الميلاد, أي أنّ الرجل خرج من بين ذلك الشعب, فقاد وزملاؤه ثورة عظيمة, وهنا أودّ القول لمن لا يعتبر ما قام به الضبّاط الأحرار ليلة 23 تمّوز-يوليو من عام 1952 ثورة ويسمّيها انقلاب أو ما شابه, أنّ تعريف الثورة هو تغيير يطال كلّ مناحي الحياة يصيب المكان الّذي تحدث فيه, بغضّ النظر عن عدد من قاموا بها أو الطريقة الّتي ثاروا بها, وكما نعلم أنّ الحياة في مصر بعد الثورة اختلفت تماماً عمّا قبلها, ولن أتكلّم عن الفوارق, فالكلّ هنا متعلّم _لأنّ الثورة جعلت التعليم مجّاني!_ ويمكنه قراءة تاريخ مصر قبل وبعد الثورة. وتأميم قناة السويس الّتي سالت فيها ملوحة عرق ودماء المصريين قبل أن تسيل فيها ملوحة ماء البحر هو أحد لاءات عبد الناصر ضدّ الغرب الاستعماري الّتي بدأت منذ مؤتمر باندونج وصفقات الأسلحة الّتي كسرت احتكار الغرب لتجارة السلاح في منطقتنا, وذلك جعل من عبد الناصر عدوّاً للغرب لأنّه ببساطة قال لهم "لا" وأخذ حقّ شعبه منهم, وكلّنا يذكر أنتوني إيدن رئيس وزراء بريطانيا حين أحضر ورقة مغموسة بالحبر الأسود وقال أنّ هذه هي صفحة عبد الناصر.. سوداء, وكان ذلك هو بداية الحبر الّذي اُهدر قبل البارود ضدّ عبد الناصر, وطبعاً ذلك الحبر المسكوب أسكر الرجعيين العرب, وجعلهم يثملون ويعيدون سكب الحبر تلو الحبر ضدّ الرجل حتّى اليوم, حتّى أنّ الغرب شبّهه بأدولف هتلر في طريقة خطابه القومي, وهنا أريد التنويه أنّ قومية عبد الناصر تختلف عن قومية هتلر, فقومية هتلر استعلائية نظرتها فوقية ضدّ القوميات الأخرى, بينما قومية ناصر قومية جامعة هدفها توحيد العرب ولا تستعلي على أيّة قوميات أخرى. ومن صفات ناصر كزعيم أنّه لم ينكسر ولم يرضخ حين هُزم في معركة, بل قاوم وأطلق لاءات الخرطوم ضدّ استبداد واستكبار العدوّ, بينما من جاء بعده _وكان يلقّب ناصر بالمعلّم_ رمى هذه اللاءات في البحر وبدّلها بالرضوخ رغم انتصار جيشه على العدوّ! طبعاً لعبد الناصر أخطاؤه _ومن في التاريخ لم يُخطئ؟!_ ولكن حسبه أنّ أخطاءه كانت نابعة من صدقه, حيث كان يعتقد صادقاً أنّ أفعاله صحيحة وفي سبيل الوطن والقضيّة وإن كان منها ما كان خاطئاً, وهذا يُغفر له بسبب صدقه, وبما أنّ حجم الأعداء وخبثهم كان كبيراً. وأودّ القول أنّني لا أحبّ تعبير "الناصرية" وأعتبرها إهانة للرجل وللشعب الّذي أنجب هذا الرجل, فالناصرية كما يعرّفها أصحابها هي نهج عبد الناصر القومي الاشتراكي فاتّبعوا "الناصرية" من أجل هذا, ولكن نهج عبد الناصر هو نهج الشعب العربي كلّه منذ الأزل, أي أن ناصر هو من كان يتبع تطلّعات الشعب ولم يستحدث شيئاً جديداً, بل جعل تطلّعات الشعب هي أولويته زنهجه, وهنا أقول أنّ عبد الناصر كان قوميّاً عربيّاً اشتراكيّاً سار خلف تطلّعات الشعب, فعلينا نحن كمحبّي الرجل أن نسير خلف التطلّعات الّتي سار خلفها وألاّ نجمّدها في شخصه فتزول, وقد كتبت منذ أيّام أنّهم للأسف ربطوا ثورة يوليو بشخص _وإن كان عظيماً_ ولم يربطوها بأنفسهم فأصبحت تاريخاً! عبد الناصر سار خلف تطلّعات الشعب وعلينا نحن أن نسير خلفها كذلك. في النهاية أودّ القول أنّنا كأفراد _حتّى لو اختلفنا مع عبد الناصر_ ولكنّنا لا نستطيع إنكار حقيقة أنّه أفضل حاكم عربي جاءنا منذ الحروب الصليبية, عسى أن يأتينا قريباً حاكمٌ مثله يؤدّي عمله كخادم للشعب العربيّ وتطلّعاته

لي قريباً مقالٌ عن خلافات عبد الناصر مع خصومه وهو ما كان ومازال يؤخذ عليه بشدّة, فسأحاول تفنيد الأمر

٧/٠٣/٢٠١١

3arabi

فكّرت في طريقة لعرض فكرة واتتني منذ فترة متعلّقة بلغتنا العربية ووجدت أنّ كتابة قصّة قصيرة فكرة لا بأس بها كمدخل إلى تلك الفكرة,,
أهدي القصّة إلى الأستاذ محمّد حمّيد معلّمي ومدرّس اللغة العربية في الصفّين الأوّل الإعدادي والثاني الإعدادي الّذي ادين له بغالبية ما أعرفه عن اللغة العربية, كما أشكر صديقتي الأستاذة الأديبة سامية أبو زيد لتصويبها بعض الأخطاء الّتي أقع فيها

استيقظت على صوت المنبّه وهو يخترق طبلتيّ أذنيّ, همهمت زوجتي الراقدة بجانبي بشيءٍ ما, ودفنت رأسها تحت الوسادة, طبعاً هي لن تصحو قبل العاشرة, أمّا أنا فعليّ الإسراع بالنهوض وممارسة طقوس الصباح قبل التوجّه إلى المدرسة حيث أعمل مدرّساً للّغة العربية, والجزء الأصعب في عملي هو النهوض باكراً وترك دفء الفراش। اتّجهت نحو المطبخ لأحضّر بعض الشاي لأكتشف أنّ الكهرباء مقطوعة, تبّاً لهم حين يقطعون الكهرباء عندما يحتاج إليها المرء, وفي هذا العصر يحتاج المرء إليها في كلّ لحظة! وضعت برّاد الشاي على النار على نور تعوّدي حلكة الظلام, وتوجّهت إلى الحمّام لأغسل وجهي, وحمدت الله حين رأيت الماء ينهمر من الصنبور, طبعاً دون كهرباء من الصعب أن أقوم بحلاقة شعيرات لحيتي النامية, نظرت إلى المرآة فرأيت السواد, وقد يكون هذا أفضل من رؤية وجه الكهل ذي الخمسة والأربعين عاماً الّذي صرتُه, الوجه الّذي قد لا يحمل ابنٌ أو ابنة ملامحَه رغم سنوات الزواج الخمس, بعد أن أمسكت عنه في فترة شبابي بسبب المسائل الّتي يعاني منها كلّ شابٍ في وطني إلى أن يكون قادراً على تحمّل مسؤولية أسرة. غسلت وجهي وعدت إلى المطبخ لأجد أنّ نصف الماء في برّاد الشاي قد تبخّر, أطفأت النار تحت البرّاد ووضعت يديّ فوقه كي أبعث فيهما بعض الدفء بما أنّه _الدفء_ لن يدخل جوفي من خلال الشاي هذا الصباح. توجّهت إلى غرفة النوم لارتداء ملابسي, وكالعادة نسيتْ زوجتي أن تقوم بكيّ قميص, يبدو أنّه سيكون لي كلمتان معها حينما أعود, أخذت قميصاً كي أقوم بكيّه فتذكّرت أن لا كهرباء هناك, تباً! عليّ ارتداؤه بالتجعيدات الّتي عليه, يبدو أنّه يومٌ أشدّ حلكة من الأيّام الأخرى! نزلت السلالم من الطابق السادس بما أنّ المصعد لا يعمل, وحتّى إن كان يعمل فأنا لا أستخدمه بسبب رهاب الأماكن المغلقة (الكلوستروفوبيا) الّذي أعانيه, وحين أصبحت في الشارع تذكّرت أنّني نسيت حقيبتي وفيها محفظتي في البيت, عجيبٌ هو مصطلح "تذكّرت أنّني نسيت" وكأنّني أقول: "مشيت ولكن لم أتحرّك"! على كلٍّ لن أحتاج الحقيبة والمحفظة بما أنّ مشواري قريب. توجّهت إلى المدرسة الّتي تقع في آخر الشارع الّذي أسكن فيه, وقد كان هناك عددٌ صغير من الطلبة المتأخّرين يجرون نحوها, كنت أرى دوماً أنّ منظر الأطفال وهم يتوجّهون إلى مدارسهم صباحاً يبعث على الأمل, رغم أنّني هذه الأيّام أتحفّظ على تسمية تلك المباني المتهالكة بمدارس, وليس السبب هو تهالك المباني بقدر ما هو تهالك دورها كمنبعٍ للماء يسقي الزرع لينمو ويشتدّ عوده, فمدارس هذا الزمن وهذا الوطن أصبحت فترة زمنية يقضيها المرء لا غير, أو نوعٌ من أنواع فصول محو الأميّة لتعلّم القراءة فقط, وطفقنا ننتظر قطرة هنا وقطرة هناك من السماء مع جفاف المنبع! مررت على بائع الصحف أمام المدرسة ولم أتوقّف لأقرأ العناوين كعادتي لأنّ الوقت تأخّر,
كان طابور الصباح قد انتهى, وتوجّه الطلاب إلى فصولهم, ودخلت من الباب الرئيس وحيّيت الحارس قائلاً:
_صباح الخير
نظر إليّ باستغراب وأنا أتجاوزه, وهمهم بكلماتٍ غير مفهومة, عزوت ذلك إلى منظر لحيتي النامية وقميصي المجعّد. لم يكن هنالك وقت للمرور على الناظر لتوقيع دفتر الحضور فتوجّهت رأساً إلى الفصل لأبدأ الدرس على أن أوقّع الدفتر لاحقاً. اقتربت من الفصل وسمعت صوت الضجيج الّذي يثيره الطلاّب دوماً قبل دخول المعلّم وكأنّهم أفراد خلية نحل نشطة, وما إن دخلت حتّى خفّ الضجيج تدريجياً إلى أن توقّف, ووقف الطلاّب احتراماً كما تعوّدوا وكما أخبرهم شوقي منذ حوالي القرن لتحيّة رسالة المعلّم, أشرت إليهم بالجلوس, وكنت قد قرّرت أن أقوم بامتحانٍ شفهيٍّ لبعض الطلاب في بداية الدرس لأرى مدى استيعابهم للدرس السابق, أشرت لأحدهم أن يأتي, وعندما وقف أمام السبّورة, كتبت جملةً طالباً منه إعراب كلماتها, وهنا نظر إليّ وعلى وجهه استغراب فرعون حين رأى عصا موسى, فقلت:
_هيّا أعرب يا بنيْ
_........
لا جواب, مع أنّني أعتبره أحد الطلاّب المجتهدين, كرّرت سؤالي, فلم يجب, بل قال شيئاً بصوتٍ خافت, أشرت له أن يرفع صوته, فسمعته يقول كلماتٍ لم أفهم منها حرفاً وكأنّه يتكلّم السواحيلية, ولولا القلق البادي على وجهه لظننت أنّه يهزَأ بي:
_ماذا تقول يا بنيْ؟
_تراتين سافناي باك شي!!
ها قد اكتملت حلكة ظلام هذا الصباح بطالبٍ يهزأ بي, نظرت إلى بقيّة الطلاّب فوجدتهم واجمين ينظرون إليّ باستغراب, أيّ نوعٍ من السخافات هذه؟ نظرت إليهم وقلت:
_من منكم يستطيع إعراب تلك الجملة؟
وقف أحدهم وقال:
_باك شاتاي هين تا!!
يبدو أنّ الأوغاد يتعمّدون حرق أعصابي, ويبدو أنّه سيكون صباحٌ حالك الظلمة عليهم, ولو أنّهم لم يمنعوا الضرب في المدارس لكنت فتكت بهم:
_تبّاً لكم! لمَ تفعلون ذلك؟ لا تجعلوني أتصرّف معكم تصرفاً قد تندمون عليه!
ارتسمت البلاهة على وجوههم, يبدو أنّهم ممثّلون من الطراز الأوّل, وهنا بدأت أفقد أعصابي وبدأ صوتي يرتفع بالصراخ العصبيّ, ويبدو أنّ الناظر كان يمرّ من أمام الفصل, فدخل ووقف الطلاّب, فبادرته والزبد يتطاير من بين شدقيّ:
_يبدو أنّ طلاّب هذا الزمن قد فقدوا كلّ احترام لمعلّميهم, انظر إليهم وإلى فعلتهم
ولكنّ الرجل نظر إليّ أنا مشدوهاً وارتسم سرب علامات استفهام وقطيع علامات تعجّب على وجهه, ماذا هنالك؟ أهناك شيء غريب في وجهي كي ينظر إليّ هكذا؟! سألته بصوت مرتجف:
_ماذا هناك يا حضرة الناظر؟!
_ساداك باي شاك لوان!!
ما الأمر؟! أهي مؤامرة؟ أهو متواطئ معهم؟ أهو عيد ميلادي وأحبّوا أن يحتفلوا به بهذه الطريقة؟ ما الأمر؟!
_لمَ تتكلّم هكذا يا حضرة الناظر, أنت كبرت على هذه الأمور الصبيانية!
_بولاك ستان ما هرباي سي!!
هنا فقدت أعصابي تماماً وكِلتُ سيلاً من الشتائم للناظر, فلا أحبّ ان يهزأ بي أحد, وعلى وقع صراخنا خرج بعض المدرّسين من فصولهم وتجمّعوا حولنا, وهنا صحت:
_يبدو أنّ الناظر والطلبة أرادوا أن يلعبوا معي لعبةً ما وكأنّنا لسنا في مدرسة
قال أحد المدرّسين وهو مدرّس رياضيات:
_فان بي سورتاك بارتي؟!
يبدو أنّ الجميع قد جنّ, ما الأمر؟ هل تواطأ الجميع ضدّي؟ أم أنّني أعيش كابوساً؟ وما هذه اللغة الّتي يتكلّمون بها؟ وجوههم لا تشي بأنّهم يمزحون, خطر لي خاطرٌ فجريت ناحية حقيبة أحد الطلاّب وفتحتها وأخرجت كتاباً وحين فتحته صُدمت, فقد وجدت أنّ كلماته مكتوبة بأحرف وأرقام غريبة لاتينية على غرار (الفرانكو-أراب) مع أنّه من صورته يبدو كتاب التاريخ! فتحت كتاباً آخر وجدت نفس الشيء! يبدو أنّه كابوسٌ, فلا يعقل أنّ الجميع متواطئ ويقومون بالمزاح معي, وهنا خطر لي خاطر:
_ Speak Arabic
صحت بهذه الجملة باللغة الإنجليزية الّتي لا أعرف إلاّ بضع كلماتٍ منها, وهنا ردّ أحد مدرّسي الإنجليزية:
Speak what!?
يبدو أنّه فهم, فحاولت أن أسأل عن كنه اللغة الّتي يتكلّمون بها ولمَ لا يتكلّمون العربية على أمل أن أصحو على صوت المنبّه, ولكنّهم على ما يبدو لم يفهموا عمّا أتحدّث. واتتني فكرة قد تكون هي المخرج, وسألت:
_قرآن.. مصحف.. بسم الله الرحم الرحيم
نظروا إلى بعضهم مستغربين, حينها بدأت أشعر بخدر في كتفي الأيسر, أين مدرّسو التربية الإسلامية لا أراهم؟ لا أعتقد أنّ القرآن يمكنه أن يكون بغير العربية, معدّل ضربات قلبي يزداد, وبدأ رهاب الأماكن المغلقة يتملّكني لسببٍ لا أدريه, جريت إلى مكتب المدير لأنّه يحتفظ بمصحفٍ كبير معلّق على الجدار, وكان منظراً غريباً ان أجري ويجري خلفي المدرّسون والطلاّب جميعاً, وحين وصلت مكتب المدير وأنا ألهث, نظرت إلى الجدار فوجدت خريطة للعالم في المكان الّذي ينبغي أن يكون فيه المصحف, وهنا بدأت بقعة حمراء تتكوّن في مجال بصري وتزايد الخدر في ذراعي اليسرى, وأحسست كأنّي في تابوت ورهاب الأماكن المغلقة هو الآمر الناهي, يبدو أنّ الأمر حقيقي, أو أنّه كابوسٌ حقيقيّ, مساحة البقعة الحمراء تتزايد, هل سأموت في هذا الكابوس؟! أسمع همهمات الجمع حولي ولا أفهم ما يقولون, عدم فهمي لهم يشعرني أنّني في صندوقٍ مغلق, هل سأموت دون أن أفهم ما الأمر؟ البقعة الحمراء اللعينة, يبدو أنّ الأمر اقترب, فحين تذهب اللغة تذهب الأفكار والكلمات فتذهب الروح وتُحبس في برميلٍ مغلق, البقعة الحمراء غطّت على كلّ الموجودات ولن يمكنني الخروج منها, فلأحاول نطق الشهادتين॥
طبعاً اللغة هي أحد أهمّ الأركان والمقوّمات الّتي تقوم عليها الأمّة, فهي كاللاصق الّذي يجمع أفرادها ويوحّد تاريخهم وأفكارهم وحضارتهم, لن أزيد في الحديث عن اللغة وقيمتها فقراءتك لهذه الكلمات وحدها تلخّص قيمة اللغة. وللأسف فأنا أجد أنّنا كعرب قد ابتعدنا عن لغتنا وربّما كان هذا سبباً لابتعادنا عن بعضنا أو قد يكون نتيجة لذلك! فحين نرى أنّ الكثيرين منّا _وأنا منهم_ نخطئ في كتابة الكثير من الكلمات وفي صياغة الكثير من الجمل يجعلنا هذا ندقّ ناقوس الخطر, حيث نرى أنّ نواة الذرّة العربية تُشطر وهذا ما سيؤدّي بنا إلى دمارٍ كبير حين تكون أفكارنا بلغة أخرى غير لغتنا
في كلّ أسبوع سأنشر بعض قواعد اللغة العربية الّتي أرى أنّنا نخطئ فيها كثيراً وبشكل شائع. وسأحاول اليوم تلخيص بعض الأخطاء المتعلّقة بالهمزة ومكانها

همزة القطع
تأتي في الأسماء والأفعال الثلاثية (أكل) والأفعال الرباعية (أسرع), وفي مصادر الأفعال الثلاثية والرباعية فقط مثل (أكل - أكلاً) و (أسرع - إسراعاً)

همزة وصل
تأتي في أفعال الأمر (اذهب, اسمع), وفي الأفعال الخماسية والسداسية (ارتفع, استمع, اقتصد, استخدم, استعمل) وفي مصادر الأفعال الخماسية والسداسية (ارتفع - ارتفاع, اقتصد - اقتصاد, استخدم - استخدام) وكم من مرّةٍ رأينا همزات القطع تكتب خطأً في كلمات مثل (إقتصاد, إستخدام وغيرها) والهمزة فيها خاطئة لأنّها همزة وصل

سأتطرّق للهمزات المتوسّطة في مرّة قادمة بعون الله وسأنتقل للهمزة المتطرّفة الّتي تاتي في آخر الكلمة
قاعدة الهمزة المتطرّفة هي أنّها تُكتب حسب حركة الحرف الّذي قبلها
أي أنّه إذا كانت حركة الحرف الّذي يسبق الهمزة الفتح تكون الهمزة على ألف مثل فعل (تلكَّأ) ونلاحظ حركة الكاف هي الفتح فكتبت الهمزة على ألف
وإذا كانت حركة الحرف السابق لها هي الضم كتبت الهمزة على واو مثل (تواطُؤ, تباطُؤ)
وإذا كانت حركة الحرف السابق لها الكسر كتبت على ياء غير منقوطة مثل (متواطِئ, سيِّئ)
وإذا كانت حركة الحرف السابق لها هي السكون كتبت على السطر مثل (دفْء, بطْء, شيْء, بريْء)
أرجو أن نكون قد استفدنا قليلاً واستمتعنا بالقصّة القصيرة, أشكركم للغاية

٦/١٨/٢٠١١

هالسيّارة مش عمبتمشي

أبدأ اليوم رحلتي في استكشاف جبل الجليد الّذي يعيق إبحار سفينتنا كعرب ويهدّد بإغراقها, فبعد أن نوّهت في مقدّمة هذه السلسلة إلى أنّ إنزال علم القرصان المستبدّ من على السارية هو البداية لانطلاقة حسنة للسفينة أبدأ الرحلة بإلقاء نظرة حولنا لأرى الفرق بين سفينتنا والسفن الأخرى, فدولة ككوريا الجنوبية مثلاً _الّتي تشكّل نصف أمّة, ويبلغ عدد سكّانها حوالي 50 مليون نسمة, وليس فيها موارد طبيعية تذكر_ يبلغ ناتجها القومي السنوي 1.5 تريليون دولار أمريكي مقارنة ب2.2 تريلون دولار وهو الناتج القومي السنوي للدول الوطن العربي مجتمعة الّتي يبلغ عدد سكّانها أكثر من 350 مليون نسمة, وفيه من النفط وحده أكثر من نصف احتياطي العالم, ناهيك عن الموارد الأخرى والامتداد والموقع*. وهنا أتساءل عن السبب الّذي يجعل نصف أمّة صغيرة فقيرة الموارد تكاد تضاهي في ناتجها القومي أمّة كبيرة غنيّة, طبعاً لا داعي لذكر أنّ غالبية الناتج القومي العربي يأتي من الموارد الطبيعية والموقع فقط, ولا داعي لذكر أنّ نسبة كبيرة من الناتج القومي العربي يذهب إلى شركات النفط الغربية الّتي تحتكر استخراجه! وقد قمت باختيار كوريا الجنوبية لتشابه واقع التقسيم والحروب المستمرة تاريخياً مع واقع الوطن العربي, ولم يقع اختياري على دولة كاليابان أو فرنسا أو بريطانيا كي لا تغرق سفينتنا في بحر دموعنا.
وعلى سبيل زيادة جرعة الأسى أودّ ذكر نتائج بعض الإحصاءات والدراسات الّتي قامت بها اليونيسكو (منظمة الأمم المتّحدة للتربية والعلم والثقافة), والّتي جاء فيها أنّ إصدارات الكتب في الوطن العربي ككلّ لا تتجاوز 11 ألف عنوانٍ جديدٍ سنوياً, بينما في كوريا الجنوبية تبلغ أكثر من 40 ألف عنوان جديد, وفي إيران 65 ألف عنوان جديد, مع العلم أنّه إذا تجاوزت نسبة توزيع كتابٍ ما الثلاثة آلاف نسخة فإنّها تعتبر نسبة مهولة في الوطن العربي! وطبعاً لا نريد الخوض في أنّ معدّل قراءة الفرد العربي لا تتجاوز ربع صفحة سنوياً, بينما يبلغ معدّل قراءة الفرد البريطاني سبعة كتب والأمريكي 11 كتاباً, ولا في نسبة الأمّية في الوطن العربي الّتي تبغ 30%, فلو خضنا في هذا فكأنّنا نخوض في الأعراض! هل هذا يليق بأمّة يعتنق أغلب أفرادها ديناً كانت أوّل كلمة وأوّل أمرٍ نزل فيه هو "اقرأ"؟!
أردت ذكر تلك الحقائق قبل أن أبدأ الاستكشاف لندرك مدى هول الجبل الجليدي الّذي تعيق أجزاؤه تقدّمنا, وسأذكر في كلّ مقال في هذه السلسلة جانباً من تلك المعوّقات, وبعد أن ذكرت في مقدّمة السلسلة جانب الاستبداد والديكتاتورية سأذكر في هذا المقال جانباً دقيقاً قد يعترض كثيرون على ذكره وهو الجانب الديني ومدى تأثير الدين على تقدّم وتأخّر هذه الأمّة. فكما نعلم أنّ العرب قبل بعثة النبي محمّد عليه الصلاة والسلام كانوا لا يشكّلون دولة أو أمّة بالمعنى الحقيقي, فقد كانوا قبائل تنتشر هنا وهناك في الجزيرة العربية تتنازع دولتا الفرس والروم على بسط السيطرة عليها, ولكن بعد بعثة الرسول, جاء عامل جديد قام بتشكيل رابط قوي يجمع هذه القبائل المتناحرة في رباط لتشكّل أمّة فيما بينها, فالإسلام لم ينزل كدينٍ فحسب بل نزل ومعه نواة قوانين تنظيمية في المجالات الاجتماعية والاقتصادية والإدارية وغيرها, وبهذا حصل العرب دون جهد على إطارٍ تنظيمي ينظّم حركة الأمّة العربية ويشكّل نوعاً من أنواع الدساتير يعود إليه القائمون على تسيير شؤون الدولة, وحتّى من لا يؤمن بالإسلام كدينٍ سماوي لا يمكنه إنكار أنّ الإسلام شكلّ الإطار الجامع والمنظّم لحركة سير وتقدّم وتطوّر الأمّة العربية في قرونه الأولى, وهنا أريد وضع تشبيه غريب نوعاً حيث أشبّه الأمم بمجموعات من الأشخاص تتقدّم جميعها على طريق الحضارة سيراً على الأقدام, وقد تسبق مجموعةٌ ما المجموعات الأخرى بشكلٍ بسيط فتتعثّر قليلاً فتسبقها مجموعة أخرى وهكذا, و لكن عندما نزل الإسلام في ربوع بلاد العرب, كان بمثابة سيّارة تنقل العرب ومن دخل معهم الإسلام بشكلٍ أسرع إلى الأمام, فيسبقون بها الأمم الأخرى على طريق الحضارة, ويصبح المسلمون متقدّمين في ركب الحضارة حيث شكّل الإسلام وما جاء معه من قوانين ناظمة سرّعت النمو الاجتماعي والاقتصادي والسياسي في العالم العربي كالسيّارة تماماً, وهذا ما كان في القرون الأولى للأمّة العربية الإسلامية, حيث غدت بلاد العرب والمسلمين الممتدّة من حدود الصين حتّى إسبانيا مركز الإشعاع الحضاري في العالم, وإذا كانت هناك كائنات تسكن الفضاء لكانت رأت حينها من السماء أنّ بقع النور في الليل على كوكب الأرض تتناثر في معظمها على مساحة المنطقة العربية والإسلامية. ولكن بعد قرونٍ قليلة تعطّلت مسيرة تلك السيّارة فتعطّل تقدّم من فيها, وأسباب التعطّل كثيرة ومختلفة, فهناك من استلم مقود القيادة وهو لا يعرف كيف يقود أساساً وبذلك ظهر مصطلح "رجل الدين" الّذي لم يكن موجوداً في القرون القليلة الأولى بعد الإسلام, فاستلم رجال الدين بالاشتراك مع الحكّام مقود السّيارة وهم لا يعرفون القيادة, وأشاحوا بنظرهم عن الطريق أمامهم وأصبحت أنظارهم معلّقة بالمرآة الخلفية حيث أصبح همّهم هو النظر إلى الخلف فقط ونسوا الطريق أمامهم, كما سُرق محرّك السيّارة وهو جوهر الإسلام وأصبحت السيّارة بهيكلها الخارجي فقط, وظهر مصطلح "المظهر الإسلامي" وكأنّ اللحية والجلباب هي ما يجعل من المرء مسلماً ونسوا أنّه لم يكن هناك في الأيّام الأولى للإسلام ما يسمّى بالمظهر الإسلامي, كما نفذ وقود السيّارة الّذي يقوم مقام الإيمان, حيث انحصر الإسلام بوصفٍ يصف به الشخص نفسه, أو عصبية جاهلية ينتمي إليها ليشعر بالحماية في كنفها فقط, كما ظهر أشخاص يدفعون السيّارة إلى الخلف بقوّة, وهؤلاء هم الطائفيون, الّذين يريدون أن يكون ركّاب السيّارة ممّن يدينون لهم هم بالولاء وليس لله, ويريدون أن يكون لونها كما يريدون, ويحاولون بقوّة إعادتها من حيث أتت, وهؤلاء هم أخطر شيء على السيّارة وركّابها, وهم من سيسقطونها في الهاوية إن لم يوقفهم أحدٌ ما. وللأسف كثيرٌ من ركّاب السيّارة رضخوا لكلّ هؤلاء, وقد زاد تطرّف البعض منهم إلى أن سقط من على حافّة الدين, فقد عادوا بنا إلى الجاهلية الأولى لنكون قبائل متصارعة, تسيطر علينا وتلهو بنا القوى الخارجية, وللأسف قلّما نجد من يريد السير بالسيّارة إلى الأمام واستخدامها في الغاية الّتي صُنعت من أجلها, وكما أرىفلم يعد هنالك سوى حلّين لنضمن السير قدماً, الأوّل هو الترجّل وترك السيّارة والسير على الأقدام في طريق التطوّر, ولكن هذا الحلّ سيّئ وغير عملي بالمرّة, حيث سبقتنا الأمم الأخرى بأشواطٍ كثيرة, ولن نستطيع اللحاق بها سيراً على الأقدام أبداً, والحلّ الثاني _وهو الصواب_ يتمثّل في إصلاح السيّارة وطرد كلّ من لا يريد لها القيام بعملها, فإن كانوا يريدون العودة إلى الخلف فليعودوا مشياً, وهم لا ينتمون إلى ركّاب السيّارة, فهي قد وُجدت من أجل التقدّم والتطوّر, والوصول إلى نهاية الطريق والغاية بسلام, ولا يستحقّ من يريد لها الخراب أن يكون فيها وأن يُعتبر من ركّابها, وكي أكون واضحاً فعلينا أن نختار بين الدين الّذي أتانا من "الحجاز" قبل 14 قرناً وبين الدين الّذي يأتينا من "السعودية" الآن!
ولنستمع لأغنية فيروز "هالسيّارة مش عمتمشي"
--------------------
*ببحث صغير عبر الانترنت يمكن التأكّد أنّ جميع الإحصائيات والمعلومات في هذا المقال حقيقيّة
كما أتمنّى منكم نشر المقال فقد يعود ببعض الفائدة لمن يقرؤه

٣/٢٨/٢٠١١

هندسة طائفية


مع بداية هذا العقد تحوّل الشعب العربي إلى حالته السائلة بعد أن تمّ تجميده لعقود من قِبل الطغاة, والعجيب أنّ هذا التحوّل للحالة السائلة كان بسبب النار الّتي أشعلها الطغاة أنفسهم في شعوبهم طيلة هذه العقود بعد أن جمّدوها, فأغرقت هذه الشعوب طغاتها, وبدأت الثورات تؤتي أُكُلها, ولكنّني هنا أريد التوقّف عند جزئية مهمّة قد تطيح بهذه الثورات الشريفة وبالثائرين. كلّنا نعلم أنّ الطغاة كانوا موجودين بدعمٍ من الامبريالية والصهيونية, قد يبدو هذان المصطلحان خشبيّان ولكن شئنا أم أبينا فهما موجودان وكان معناهما يشكّلان الغطاء للطغاة, والآن بعد سقوط الطغاة تريد الصهيونية خلق شيءٍ جديد يجمّد الشعب العربي أو يحرقه تماماً, ولم يبقَ في أيديهم _كما أرى_ إلاّ سلاح الطائفية الّذي كانوا يبثّونه فينا طوال سنيّ التجمّد وها هم سيقومون بتفعيله الآن لأنّ سلاح الطغاة قد سقط.وهنا أريد بداية أن أوجز رؤيتي للدين كما أفهمه, فالدين حالة فردية أي أنّ كلّ واحدٍ فينا لديه رؤية قد تكون مختلفة عن الآخر, ومن هنا جاء مصطلح قوّة الإيمان, فالإيمان قد يكون موجوداً ولكن تختلف درجاته وأنواعه, وهنا رسمتُ في ذهني رؤية خاصّة للإنسان والدين, ولتبسيط الأمر رسمت الشكل أعلاه الّذي يمثّل مثلّثاً قائم الزاوية, حيث الضلع العمودي (أ) هو علاقة الإنسان بالله تعالى, والضلع الأفقي (ب) هو علاقة الإنسان بالبشر الآخرين, ووتر المثلّث (ج) هو محصّلة الضلعين القائمين حسب فيثاغورس, والضلعان القائمان هما عمل الإنسان في دنياه والوتر هو المحصّلة الّتي سيُحاسب عليها يوم القيامة, ويتغيّر ميل الوتر وطوله بتغيّر طولي الظلعين القائمين, أي أنّ الحساب سيكون من خلال تعامل المرء مع ربّه ومع المخلوقات الأخرى. ومن هنا نرى أنّ ليس هناك علاقة لبشريٍّ بالضلعين (أ) و(ج) لبشريٍّ آخر, حيث يمثّل الضلع الأوّل علاقة الإنسان بربّه حصراً, والثاني مؤجّل إلى يوم الحساب كي يحاسبنا الله على أساسه, ولكنّنا في زمننا هذا نرى أنّ تعامل الإنسان مع إنسانٍ آخر في بيئتنا بات يعتمد على الضلع (أ) والّذي لا يمكن لإنسان معرفة طوله لأنّنا لا نستطيع شقّ صدر إنسان ومعرفة علاقته بالله, فالظاهر ليس كلّ شيء, فمثلاً ليس كلّ من وُلد مسلماً مسلمٌ حقّاً! وهنا سأتحدّث عن الضلع (ب), فمثلاً قد نجد في بيئتنا أناسٌ يحبّون شخصاً سيّئاً معهم _ضلع (ب) عنده قصير_ لأنّه فقط من دينهم أو طائفتهم ولكنّهم يكرهون آخراً رائعاً معهم _ضلع (ب) لديه طويل_ فقط لأنّه ليس من دينهم أو طائفتهم, وكأنّهم يرون الضلع (أ) حقّاً ويعرفون علاقته بالله أو كأنّهم هم الله فيحاسبون على الضلع (أ)!! وهنا أتساءل لمَ بعض الناس عندنا تكره الآخرين لأنّهم ليسوا على عقيدتهم؟ فهل هم يكرهونهم لأنّهم لن "يدخلوا الجنّة معهم"؟! وهناك أناسٌ فهموا أنّ الدين يجب أن يُنشر بالسيف وهذا اعتقاد خاطئ تماماً, فحين خرج المسلمون الأوائل من الجزيرة العربية إلى الشام والعراق ومصر وشمال إفريقيا, لم يخرجوا كجيوش, بل خرجوا كدعاة كي يخبروا الناس عن الإسلام و"من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر", ولكنّهم اضطرّوا للحرب والقتال حين منعتهم الجيوش البيزنطية والفارسية من أداء ومهمّتهم وكان الأمر دفاعاً عن النفس وعن حقّهم في التبليغ, فهم أساساً لم يخرجوا لقتال. وممّا يحزن المسلم الآن أن يرى المسلمين _الّذين يعبدون إلهاً واحداً_ يكرهون بعضهم بسبب فروقات مذاهبهم, في حين أنّ أهل الجاهلية الّذين كانوا يعبدون الأصنام المختلفة وكانت لكلّ جماعة منهم صنماً لم يكرهوا أو يحاربوا بعضهم بسبب اختلاف أصنامهم! حتّى أنّ مشركي قريش لم يحاربوا الرسول صلوات الله عليه إلاّ عندما أتاه أمر الله بهدم الأصنام, فكانت حربهم اقتصادية بحتة, فاقتصاد قريش كان يعتمد على الحجّ وبيع الأصنام الّتي يصنعونها, فخافوا أن تذهب هذه "التجارة" من يدهم فحاربوا الإسلام! والآن نرى أن هناك مسلمون "كذا" ومسلمون "كذا", ونرى أنّهم حذفوا كلمة "مسلمون" وأصبح واحدهم يقول: أنا "كذا", وكأنّه نسي أنّه مسلم وأنّ رسوله هو رسول المحبّة وأنّ ربّه هو الله الواحد, فتعصّب ل"كذا" وحارب الله ورسوله, فالرسول جاء بالإسلام فقط ولم يعطه اسماً آخر ولكنّ المسلمين الّذين أتوا بعد عصر الرسول "اجتهدوا" فظهرت المذاهب والطوائف, ولكن أنا أرى أنّ الإسلام واحد ولكن لكلٍّ منّا طريقته في ممارسة إسلامه حسب فهمه لكلام الله وتعاليم رسوله الكريم, ف"رجال الدين" قد يعلّمونني أركان الإسلام من شهادة وصلاة وصوم وزكاة وحجّ فقط, ولكنّهم لن يستطيعوا تعليمي أركان الإيمان, فأنا أستطيع قراءة القرآن الكريم مثلهم تماماً, وحتّى تفسير الآيات يختلف بين رجل دينٍ وآخر, ونحن نعلم أنّه لا كهانة في الإسلام, وكلٌّ يؤخذ منه ويُردّ إلاّ رسول الله الآتي إلينا بهذا الدين, لذا أستغرب جدّاً من حالة تقديس رجال الدين الّتي اعترتنا, فهم لا يختلفون عنّا في شيء ولا يأتيهم الوحي الّذي نزل قبل 1400 عام بالآية الكريمة "اليوم أكملت لكم دينكم و أتممت عليكم نعمتي و رضيت لكم الإسلام دينا".في النهاية لا يهمّنا كبشر إلاّ الضلع (ب) الّذي هو تعامل البشر مع بعضهم, أمّا الضلعان الآخران فالله يعلم بهما ويحاسب عليهما, و أودّ القول أنّ جزيء الماء يتكوّن من ذرّتي هيدروجين وذرّة أوكسجين, ولا تستطيع أيّة ذرّة منهما أن تقول أنّها هي الماء, ودون الذرّتين لن يوجد الماء وسنموت من العطش ولن نجد ما نطفئ به نيران الصهيونية.

٢/١٣/٢٠١١

ثورات

عندما شرعت في كتابة هذا المقال, ثارت عليّ الحروف جميعها وكادت تسقطني و قلمي من سدّة حكمها, و قد كان مطلبها أن تكون جميعها واقفةً في المقال مثل حرف الألف إجلالاً لأرواح الشهداء الّذين ارتفعوا _ولم يسقطوا_ في ثورتيّ تونس ومصر, وتعظيماً لجراح المصابين, واحترماً للشعب العربي العظيم في تونس ومصر, ولو لم أرضخ لشعب الحروف, ولم ألبّي رغبته الأخرى في أن أكتب المقال وأنا واقف على قدميّ, ولو لم تقتنع الحروف أنّ غايتنا واحدة, لكنت الآن في جدّة.
أعشق الشعب العربي في تونس, شعب هانيبعل مُرعب روما, شعب قرطاج التاريخ وقرطاج الحاضر وقرطاج المستقبل, شعب البوعزيزي الّتي كانت ناره منارةً للشعوب نحو حرّيتها وكرامتها, الشعب الثوريّ الرائد, ولكن سيكون جلّ كلامي هنا عن ثورة مصر, وذلك لأنّ لديّ بعض خبرةٍ في الحياة المصرية والسياسة المصرية والإنسان المصري, قد يقول قائل: ولكنّك لست مصريّاً! وهنا أجيب: في خريطة جيناتي هناك قارّات ومحيطات مصرية, والطين الّذي خلقت منه مجبولٌ بماء النيل, وليس عليك أن تكون من مصر كي تكون مصريّاً, وأنا عُمانيّ ويمنيّ وحجازيّ وعراقيّ وشاميّ ومصريّ وسودانيّ ومغاربيّ بنفس القدر, فأنا عربيّ, ومصر منّي موقع القلب. خلال الأسابيع القليلة الماضية عرفت لِمَ يظهر النيل على الخريطة وكأنّه يرتفع ويرتقي إلى مصر, ولِمَ يظهر وكأنّه يشير بإشارة النصر في دلتاه قبل أن يصبّ في البحر, المتوسّط حاملاً معه حكايا وضحكات ودموع وأفراح وأحزان وثقافة المصريين, لتنتشر عبر البحر المتوسّط إلى كلّ محيطات العالم وتتشرّب منها سواحله. قبل بداية الثورة في يوم 25 يناير (كانون الثاني), وعند الإعلان عنها كنت متشكّكاً بجدوى الإعلان, وخصوصاً عندما كانت المطالب معيشية كرفع الحدّ الأدنى للأجور وأشياء من هذا القبيل, وكنت أرى الثورات تقوم من أجل تغيير شامل, كما كنت أرى أنّه من الصعب أن تنجح ثورة أُعلن عن تاريخها ووقت حدوثها مسبقاً, ولكن بعد اليوم الأوّل وجدت أنّها ثورة حقيقية وضَع الشعب مطالبها التغييرية الشاملة وهو في الشارع يواجه للموت, وأنّها ثورة كرامة لا ثورة جياع كما قد يقول المتخلّفون, وأنّ وضع تاريخها مسبقاً كان إفساحاً للنظام البائد وإعطاءه فرصةً كي يصلح من نفسه قبل فوات الأوان, ولكنّه تعامل معها على طريقة "خلّيهم يتسلّوا", واعتمد على جهازه الأمنيّ واثقاً أنّه سيحتوي أعداد المتظاهرين "القليلين" حسب رأيه, وحصل ما حصل, ولن أزيد عن كلّ ما كُتب وسيكتب ولن أقول سقط النظام بل سأقول أسقط الشعبُ النظامَ. وما أريد قوله عن الأيّام الماضية أنّ شخصية الشعب المصري عادت كما كانت منذ قديم الدهر, حيث كان هناك "يورانيوم" حوّر الجينات النفسيّة للشعب على مدى خمسةٍ وثلاثين عاماً, وجعل الشعب يبدو طافراً فيه كلّ العبر, ولكن أتى القرار بالتغيير وإزالة هذا اليورانيوم, والجميل أنّ القرار كان جماعياً, وكأنّ الساعة البيولوجية في الجينات النفسية لكلّ الشعب كانت قد وُقّتت على هذه اللحظة كي ينتفض ويثور, وبدأ العلاج وأُزيح اليورانيوم المُمرض, وعادت الجينات كما كانت, لا بلّ تطوّرت, ولأوّل مرّة في التاريخ يتخلّى المصريون جميعاً عن فكرة تأليه الحاكم ويثورون عليه بشخصه ويزيحونه عن عرشه, وعاد المصريون وأعادوا مصر وسيعيدون مع العرب مجد أمّة.
أريد التحدّث قليلاً واستشراف الفترة القادمة, فمكوث النظام البائد مدّةً زادت عن ثلاثة عقود جرّف كل مناحي الحياة في مصر وخصوصاً الثقافية والعلمية, ولم يقم بعمل أيّ مشروع عملاق يوفّر فرص العمل للشباب المصري, لذا _وبما أنّني مصري قحّ_ أرى أنّ أوّل ما يجب أن نهتمّ به هو التعليم, فالتعليم هو أساس نهضة الأمم, فالتركيز على التعليم ووضع خطّة تعليمية شاملة سيؤتي ثماره بعد حوالي عشرين سنة, حينها ستتغيّر مصر علمياً وتكنولوجيّاً وستنهض, وهذا يحتاج منّا دعمَ المعلّمين وتوفير المترجمين لترجمة كلّ كتاب مفيد من أيّة لغة, ومتابعة التكنولوجيا والتطوّر العلمي دوماً, فالثورة انطلقت أساساً من خلال التكنولوجيا الحديثة. وفي خلال هذه المدّة _مدّة النهضة العلمية_ يتوجّب علينا إنشاء مشروع عملاق, يوظّف طاقات الشباب من جميع الفئات, وأنا أرى أنّ أفضل مشروع ممكن حاليّاً هو الزراعة واستصلاح الأراضي, فكما نعلم أنّ فقط 8% من أرض مصر مأهولة, ومساحة مصر تبلغ مليون كيلومتر مربّع, وهناك نهر النيل وطمي نهر النيل الآتي مع مياهه. وكما نعلم فمصر تستورد جزء كبير من غذائها, ومصر لديها الموارد و اليد العاملة والطاقات القادرة على تنفيذ مشروع بهذا الحجم, ومصر أساساً زراعية منذ الأزل, والفلاّح المصري هو رائد إنسانيّاً, وكما كان السدّ العالي في الخمسينات والستّينات مشروعاً قوميّاً وفّر فرص العمل لكثيرٍ من قطاعات الشباب, فمشروع الزراعة _ولأسمّيه مشروع ال"30%"كي نصل إلى 30% من مساحة مصر خضراء_ سيوفّر فرص عملٍ أكبر, حيث سيعمل فيه المهندسون _من جميع الاختصاصات_ وخبراء الريّ والزراعة والأطبّاء والمحاسبون وخبراء المساحة والجيولوجيا والشباب من كلّ الفئات, حيث لن يكون هناك عاطل عن العمل وستنشأ مدنٌ جديدة, وستكتفي مصر ذاتيّاً من الغذاء بل ستصدّر كذلك. أرى أنّ هذا هو المشروع القومي المناسب للفترة الحالية إلى جانب التعليم, حيث أنّ مصر غير قادرة حاليّاً على دخول خضمّ المنافسة التكنولوجية مع الدول الأخرى وهذا سيكون بعد عقود قليلة إن اهتممنا بالتعليم, ولكن الزراعة والأرض هي أساس النهضة الآنية الآن, وكلّ المقوّمات موجودة, والجينات النفسية للإنسان المصري عادت أقوى ممّا كانت, وهذه الجينات مرتبطة بالأرض والتراب والماء, وأرى مصر عربية قويّة في فترة قليلة مع اتّحادها مع محيطها العربي وإزالة ما يسمّى بالكيان الصهيوني الّذي سيغدو قريباً عبئاً استراتيجياً على الولايات المتّحدة أمام إرادة شعوب المنطقة, وستغدو إزالته سهلة بالنسبة لنا لنقوم وننهض بالأمّة ونناطح الكبار في هذا العالم.
حلم صغير _وإن كان كبيراً_ أردت إشارككم فيه, ومن يرى منكم أنّ فيه افكاراً مفيدة فأرجو أن ينشره كي تتمّ مناقشتها على نطاق أوسع, فقد يرمي الناس ما في دلائهم لنكوّن إلى جانب ما في دلوي ودلائكم بحاراً ومحيطات, وأخيراً أقول يحيا شهداء تونس ومصر, فلولاهم لما اكتملت الثورتان, ولولا صعود أرواحهم لما استمرّ تحدّي الناس ولما كانت إرادتهم صلدة كالماس لم يخدشها شيء, وأنهي مقالي بتحيّة الشهداء العظام ولجراح المصابين ولصمود الشعوب, وسأجلس قليلاً..

١/٠٨/٢٠١١

قصيصة طويلة

بما أنّ أعمارنا متقاربة لا تتجاوز السنوات الأربع بعد, فقد جلسنا جميعاً على الأرض, نلهو بتلك المكعّبات الملوّنة على اعتبار أنّ الكبار يدّعون أنّها تنمّي العقل والإدراك عند الطفل. كنّا ستّة أطفال, ثلاثةٌ مثلي وثلاثة من ذوي الشعرٍ الطويل مثل أمّي, وقد تعلّمت أنّ هؤلاء يُطلق عليهنّ فتيات مع أنّني أرى أنّهنّ لا يختلفن عنّا كثيراً. كان جلّ همّنا كأطفال هو اللعب معاً, حيث ليس هناك بيننا وغدٌ كبير يسوسنا أو صغير يعكّر علينا صفو لهونا. وقد اقترح أحدنا أن نبني من المكعّبات أبنية كالّتي يقول أنّ والده يبنيها _لم أفهم كيف يبني والده تلك الأبنية العملاقة وحده, يبدو أنّ والده عملاق أو شيء من هذا القبيل_, وقد استسغنا جميعاً فكرة البناء على سبيل كسر الملل ولإشغال ذلك الشيء الّذي سأدرك لاحقاً عندما أكبر أنّه الوقت. كنّا نتكلّم بين بعضنا لغةً واحدة تختلف عن اللغة الّتي تكلّمُنا بها بعض المشرفات اللاّئي يعملن في هذا المكان الّذي اسمه روضة أطفال _لن أعلم أبداً إن كانت الكلمة بمعنى بستان أم أتت من كلمة ترويض!_, واللغة الّتي نتكلّم _ونفكّر_ بها اسمها العربية كما علمت من والديّ الّذين يصرّان على التحدّث بها في المنزل. ولو كنتُ أكبر قليلاً _أو طفلاً عبقريّاً_ لعلمت أنّنا جميعاً أبناء وطنٍ واحد, وأنّ أهلنا اضطرّوا لتركه والمكوث في هذه البلاد الغريبة لأسبابٍ مختلفة, تبدأ بالاضطهاد وتمرّ بالطرد والحرب ولا تنتهي بالجوع, لكنّي لن أستعجل الأمور وسأعلم كلّ هذا لاحقاً فلأستمتع بجهلي الآن. شرعنا في رصّ المكعّبات وقد كانت وافرة و تكفي لملء مساحة الغرفة, ولاحظت في جِيْد إحدى الفتيات وجود عقدٍ فضّي عُلّقت فيه أيقونة على شكل خطّين متقاطعين أو متصالبين كالّتي أراها على أبنيةٍ كثيرة هنا, منها بناءٌ جميلٌ زرته منذ فترة قصيرة مع جيراننا بعد أن كانوا في بيتنا يشاركوننا ذلك الغداء المتأخّر الجميل الّذي يبدأ مع غروب الشمس بعد أن يقولوا أنّ شيئاً اسمه أذان المغرب قد أزف, وكنت قد أشعلت داخل ذلك البناء شمعةً قبل أن أذهب للقاء بابا نويل ليعطيني هديّتي. ولو قدّر لي الله أن أكبر قليلاً سأعلم أنّ هذه الأيقونة اسمها الصليب, وهي رمزٌ لدينٍ سماويّ يتّبعه كثيرٌ من الناس, وبعد ثلاث أو أربع سنوات من الآن, سأتعلّم في مكان اسمه المدرسة وفي حصّة "التربية الدينية", أنّ كثيراً من المسلمين الأوائل ممّن آمنوا ببعثة الرسول محمّد صلّى الله عليه وسلّم استجاروا بملك الحبشة المسيحي هرباً من اضطهاد أهلهم لهم, بعد أن أشار عليهم الرسول صلّى الله عليه وسلّم بذلك, لعلمه أنّهم سيكونون آمنين في كنف هؤلاء المسيحيين وملكهم. ولو كبرت قليلاً و وصلت لسنّ المراهقة, سأدرس في كتاب اسمه التاريخ عن شيء اسمه ثورة في قطرٍ من أقطار وطني اسمه مصر قامت بعد ثلاثة عشر قرناً من إيواء أهل الحبشة الغرباء للمسلمين الأوائل, رغم أنّني لن أكون قد عايشت ثورة لأنّ معظم أهل زمني لن يعرفوا من الثورة إلاّ الأعياد والعطل الرسمية و "قول: (احلبوه) إذا قيل لهم: (ثور)", وقد قامت تلك الثورة ضدّ الاستعمار الّذي أتى من وراء البحار, وسأعلم _لو كنتُ طالباً مجتهداً_ أنّ شعارها كان الهلال مع الصليب, رغم أنّني لن أعلم أبداً إلامَ يرمز الهلال, ولكنّي حينها سأتغاضى عن الأمر على اعتبار أنّ الأمر رمزي, وكي أستحصل على أكبر قدرٍ من الدرجات في امتحان التاريخ, فهكذا سيكون حال تعليمنا على طريقة أجب ولا تسأل. وسأرى عندما أكبر وأبلغ العشرينات من عمري _وأنشئ حساباً على موقع اجتماعي ما_ أناساً في قطر تلك الثورة مصر يرفعون ذات شعارها إذا حصلت هزّة ما _يعتقدون أنّها_ قد تخلخل النسيج الاجتماعي, ولو كان حظّي سيّئاً _وسيكون_ سأرى من يهاجم وضع ذلك الشعار لأسبابٍ يتوهّم أنّها دينية. ولو نما عقلي مع نمو جسدي كما آمل, سأتذكّر وأفهم قول رسولي ورسولهم عليه الصلاة والسلام "إنّما الأعمال بالنيّات" وأنّ نيّة من وضع الشعار هو الدلالة على وحدة النسيج الاجتماعي والتمسّك بها, لا نيّة أخرى, ولو سبق عقلي جسدي نموّاً لن أستسيغ وضع ذلك الشعار لأنّه بقدر ما يشجّع على وحدة النسيج الاجتماعي بقدر ما يدلّ على فرقته من خلال الدلالة على الانقسام في المجتمع بين الرمزين, كما سيكون مصطلح "وحدة وطنية" له وقع طعم ليمونةٍ حامضةٍ في فمي, حيث سيكون إدراكي أنّ كلمة وطن بحدّ ذاتها تعني وحدة, وأنّ إقران المعنى بالمعنى نفسه لا يُطمئِن, ويدلّ على أنّ شيئاً ما ليس على ما يرام في نسيج الوطن الّذي يتغنّى بالوحدة الوطنية. طبعاً لم تُشغِل خلايا دماغي الرمادية الصغيرة نفسها بكلّ وأنا أرصّ المكعّبات, فكلّ همّي هنا هو أن نبني أبنية تكوّن مدينة جميلة, نقود دمى السيّارات في شوارعها, وبينما لا أفكّر ولا أشغل بالي بكلّ ذلك, داس أحدهم على دمية الآخر دون قصد فكسرها, فهجم عليه هذا الآخر باكياً وتعاركا, فتهدّم كلّ ما بنيناه وتناثرت المكعّبات حولنا, وجلسا يبكيان بشعورهم المشعّثة من جرّاء العراك وبكينا معهما على تعبنا الّذي ضاع, وبعد وصول المشرفات إلينا ليرين ما الأمر, أخذنَ مصطفى وبطرس كي تهندمْنَهما وربّما تفهمْنَهما بعض أخطائهما.