١/٠٨/٢٠١١

قصيصة طويلة

بما أنّ أعمارنا متقاربة لا تتجاوز السنوات الأربع بعد, فقد جلسنا جميعاً على الأرض, نلهو بتلك المكعّبات الملوّنة على اعتبار أنّ الكبار يدّعون أنّها تنمّي العقل والإدراك عند الطفل. كنّا ستّة أطفال, ثلاثةٌ مثلي وثلاثة من ذوي الشعرٍ الطويل مثل أمّي, وقد تعلّمت أنّ هؤلاء يُطلق عليهنّ فتيات مع أنّني أرى أنّهنّ لا يختلفن عنّا كثيراً. كان جلّ همّنا كأطفال هو اللعب معاً, حيث ليس هناك بيننا وغدٌ كبير يسوسنا أو صغير يعكّر علينا صفو لهونا. وقد اقترح أحدنا أن نبني من المكعّبات أبنية كالّتي يقول أنّ والده يبنيها _لم أفهم كيف يبني والده تلك الأبنية العملاقة وحده, يبدو أنّ والده عملاق أو شيء من هذا القبيل_, وقد استسغنا جميعاً فكرة البناء على سبيل كسر الملل ولإشغال ذلك الشيء الّذي سأدرك لاحقاً عندما أكبر أنّه الوقت. كنّا نتكلّم بين بعضنا لغةً واحدة تختلف عن اللغة الّتي تكلّمُنا بها بعض المشرفات اللاّئي يعملن في هذا المكان الّذي اسمه روضة أطفال _لن أعلم أبداً إن كانت الكلمة بمعنى بستان أم أتت من كلمة ترويض!_, واللغة الّتي نتكلّم _ونفكّر_ بها اسمها العربية كما علمت من والديّ الّذين يصرّان على التحدّث بها في المنزل. ولو كنتُ أكبر قليلاً _أو طفلاً عبقريّاً_ لعلمت أنّنا جميعاً أبناء وطنٍ واحد, وأنّ أهلنا اضطرّوا لتركه والمكوث في هذه البلاد الغريبة لأسبابٍ مختلفة, تبدأ بالاضطهاد وتمرّ بالطرد والحرب ولا تنتهي بالجوع, لكنّي لن أستعجل الأمور وسأعلم كلّ هذا لاحقاً فلأستمتع بجهلي الآن. شرعنا في رصّ المكعّبات وقد كانت وافرة و تكفي لملء مساحة الغرفة, ولاحظت في جِيْد إحدى الفتيات وجود عقدٍ فضّي عُلّقت فيه أيقونة على شكل خطّين متقاطعين أو متصالبين كالّتي أراها على أبنيةٍ كثيرة هنا, منها بناءٌ جميلٌ زرته منذ فترة قصيرة مع جيراننا بعد أن كانوا في بيتنا يشاركوننا ذلك الغداء المتأخّر الجميل الّذي يبدأ مع غروب الشمس بعد أن يقولوا أنّ شيئاً اسمه أذان المغرب قد أزف, وكنت قد أشعلت داخل ذلك البناء شمعةً قبل أن أذهب للقاء بابا نويل ليعطيني هديّتي. ولو قدّر لي الله أن أكبر قليلاً سأعلم أنّ هذه الأيقونة اسمها الصليب, وهي رمزٌ لدينٍ سماويّ يتّبعه كثيرٌ من الناس, وبعد ثلاث أو أربع سنوات من الآن, سأتعلّم في مكان اسمه المدرسة وفي حصّة "التربية الدينية", أنّ كثيراً من المسلمين الأوائل ممّن آمنوا ببعثة الرسول محمّد صلّى الله عليه وسلّم استجاروا بملك الحبشة المسيحي هرباً من اضطهاد أهلهم لهم, بعد أن أشار عليهم الرسول صلّى الله عليه وسلّم بذلك, لعلمه أنّهم سيكونون آمنين في كنف هؤلاء المسيحيين وملكهم. ولو كبرت قليلاً و وصلت لسنّ المراهقة, سأدرس في كتاب اسمه التاريخ عن شيء اسمه ثورة في قطرٍ من أقطار وطني اسمه مصر قامت بعد ثلاثة عشر قرناً من إيواء أهل الحبشة الغرباء للمسلمين الأوائل, رغم أنّني لن أكون قد عايشت ثورة لأنّ معظم أهل زمني لن يعرفوا من الثورة إلاّ الأعياد والعطل الرسمية و "قول: (احلبوه) إذا قيل لهم: (ثور)", وقد قامت تلك الثورة ضدّ الاستعمار الّذي أتى من وراء البحار, وسأعلم _لو كنتُ طالباً مجتهداً_ أنّ شعارها كان الهلال مع الصليب, رغم أنّني لن أعلم أبداً إلامَ يرمز الهلال, ولكنّي حينها سأتغاضى عن الأمر على اعتبار أنّ الأمر رمزي, وكي أستحصل على أكبر قدرٍ من الدرجات في امتحان التاريخ, فهكذا سيكون حال تعليمنا على طريقة أجب ولا تسأل. وسأرى عندما أكبر وأبلغ العشرينات من عمري _وأنشئ حساباً على موقع اجتماعي ما_ أناساً في قطر تلك الثورة مصر يرفعون ذات شعارها إذا حصلت هزّة ما _يعتقدون أنّها_ قد تخلخل النسيج الاجتماعي, ولو كان حظّي سيّئاً _وسيكون_ سأرى من يهاجم وضع ذلك الشعار لأسبابٍ يتوهّم أنّها دينية. ولو نما عقلي مع نمو جسدي كما آمل, سأتذكّر وأفهم قول رسولي ورسولهم عليه الصلاة والسلام "إنّما الأعمال بالنيّات" وأنّ نيّة من وضع الشعار هو الدلالة على وحدة النسيج الاجتماعي والتمسّك بها, لا نيّة أخرى, ولو سبق عقلي جسدي نموّاً لن أستسيغ وضع ذلك الشعار لأنّه بقدر ما يشجّع على وحدة النسيج الاجتماعي بقدر ما يدلّ على فرقته من خلال الدلالة على الانقسام في المجتمع بين الرمزين, كما سيكون مصطلح "وحدة وطنية" له وقع طعم ليمونةٍ حامضةٍ في فمي, حيث سيكون إدراكي أنّ كلمة وطن بحدّ ذاتها تعني وحدة, وأنّ إقران المعنى بالمعنى نفسه لا يُطمئِن, ويدلّ على أنّ شيئاً ما ليس على ما يرام في نسيج الوطن الّذي يتغنّى بالوحدة الوطنية. طبعاً لم تُشغِل خلايا دماغي الرمادية الصغيرة نفسها بكلّ وأنا أرصّ المكعّبات, فكلّ همّي هنا هو أن نبني أبنية تكوّن مدينة جميلة, نقود دمى السيّارات في شوارعها, وبينما لا أفكّر ولا أشغل بالي بكلّ ذلك, داس أحدهم على دمية الآخر دون قصد فكسرها, فهجم عليه هذا الآخر باكياً وتعاركا, فتهدّم كلّ ما بنيناه وتناثرت المكعّبات حولنا, وجلسا يبكيان بشعورهم المشعّثة من جرّاء العراك وبكينا معهما على تعبنا الّذي ضاع, وبعد وصول المشرفات إلينا ليرين ما الأمر, أخذنَ مصطفى وبطرس كي تهندمْنَهما وربّما تفهمْنَهما بعض أخطائهما.

ليست هناك تعليقات: