٢/١٣/٢٠١١

ثورات

عندما شرعت في كتابة هذا المقال, ثارت عليّ الحروف جميعها وكادت تسقطني و قلمي من سدّة حكمها, و قد كان مطلبها أن تكون جميعها واقفةً في المقال مثل حرف الألف إجلالاً لأرواح الشهداء الّذين ارتفعوا _ولم يسقطوا_ في ثورتيّ تونس ومصر, وتعظيماً لجراح المصابين, واحترماً للشعب العربي العظيم في تونس ومصر, ولو لم أرضخ لشعب الحروف, ولم ألبّي رغبته الأخرى في أن أكتب المقال وأنا واقف على قدميّ, ولو لم تقتنع الحروف أنّ غايتنا واحدة, لكنت الآن في جدّة.
أعشق الشعب العربي في تونس, شعب هانيبعل مُرعب روما, شعب قرطاج التاريخ وقرطاج الحاضر وقرطاج المستقبل, شعب البوعزيزي الّتي كانت ناره منارةً للشعوب نحو حرّيتها وكرامتها, الشعب الثوريّ الرائد, ولكن سيكون جلّ كلامي هنا عن ثورة مصر, وذلك لأنّ لديّ بعض خبرةٍ في الحياة المصرية والسياسة المصرية والإنسان المصري, قد يقول قائل: ولكنّك لست مصريّاً! وهنا أجيب: في خريطة جيناتي هناك قارّات ومحيطات مصرية, والطين الّذي خلقت منه مجبولٌ بماء النيل, وليس عليك أن تكون من مصر كي تكون مصريّاً, وأنا عُمانيّ ويمنيّ وحجازيّ وعراقيّ وشاميّ ومصريّ وسودانيّ ومغاربيّ بنفس القدر, فأنا عربيّ, ومصر منّي موقع القلب. خلال الأسابيع القليلة الماضية عرفت لِمَ يظهر النيل على الخريطة وكأنّه يرتفع ويرتقي إلى مصر, ولِمَ يظهر وكأنّه يشير بإشارة النصر في دلتاه قبل أن يصبّ في البحر, المتوسّط حاملاً معه حكايا وضحكات ودموع وأفراح وأحزان وثقافة المصريين, لتنتشر عبر البحر المتوسّط إلى كلّ محيطات العالم وتتشرّب منها سواحله. قبل بداية الثورة في يوم 25 يناير (كانون الثاني), وعند الإعلان عنها كنت متشكّكاً بجدوى الإعلان, وخصوصاً عندما كانت المطالب معيشية كرفع الحدّ الأدنى للأجور وأشياء من هذا القبيل, وكنت أرى الثورات تقوم من أجل تغيير شامل, كما كنت أرى أنّه من الصعب أن تنجح ثورة أُعلن عن تاريخها ووقت حدوثها مسبقاً, ولكن بعد اليوم الأوّل وجدت أنّها ثورة حقيقية وضَع الشعب مطالبها التغييرية الشاملة وهو في الشارع يواجه للموت, وأنّها ثورة كرامة لا ثورة جياع كما قد يقول المتخلّفون, وأنّ وضع تاريخها مسبقاً كان إفساحاً للنظام البائد وإعطاءه فرصةً كي يصلح من نفسه قبل فوات الأوان, ولكنّه تعامل معها على طريقة "خلّيهم يتسلّوا", واعتمد على جهازه الأمنيّ واثقاً أنّه سيحتوي أعداد المتظاهرين "القليلين" حسب رأيه, وحصل ما حصل, ولن أزيد عن كلّ ما كُتب وسيكتب ولن أقول سقط النظام بل سأقول أسقط الشعبُ النظامَ. وما أريد قوله عن الأيّام الماضية أنّ شخصية الشعب المصري عادت كما كانت منذ قديم الدهر, حيث كان هناك "يورانيوم" حوّر الجينات النفسيّة للشعب على مدى خمسةٍ وثلاثين عاماً, وجعل الشعب يبدو طافراً فيه كلّ العبر, ولكن أتى القرار بالتغيير وإزالة هذا اليورانيوم, والجميل أنّ القرار كان جماعياً, وكأنّ الساعة البيولوجية في الجينات النفسية لكلّ الشعب كانت قد وُقّتت على هذه اللحظة كي ينتفض ويثور, وبدأ العلاج وأُزيح اليورانيوم المُمرض, وعادت الجينات كما كانت, لا بلّ تطوّرت, ولأوّل مرّة في التاريخ يتخلّى المصريون جميعاً عن فكرة تأليه الحاكم ويثورون عليه بشخصه ويزيحونه عن عرشه, وعاد المصريون وأعادوا مصر وسيعيدون مع العرب مجد أمّة.
أريد التحدّث قليلاً واستشراف الفترة القادمة, فمكوث النظام البائد مدّةً زادت عن ثلاثة عقود جرّف كل مناحي الحياة في مصر وخصوصاً الثقافية والعلمية, ولم يقم بعمل أيّ مشروع عملاق يوفّر فرص العمل للشباب المصري, لذا _وبما أنّني مصري قحّ_ أرى أنّ أوّل ما يجب أن نهتمّ به هو التعليم, فالتعليم هو أساس نهضة الأمم, فالتركيز على التعليم ووضع خطّة تعليمية شاملة سيؤتي ثماره بعد حوالي عشرين سنة, حينها ستتغيّر مصر علمياً وتكنولوجيّاً وستنهض, وهذا يحتاج منّا دعمَ المعلّمين وتوفير المترجمين لترجمة كلّ كتاب مفيد من أيّة لغة, ومتابعة التكنولوجيا والتطوّر العلمي دوماً, فالثورة انطلقت أساساً من خلال التكنولوجيا الحديثة. وفي خلال هذه المدّة _مدّة النهضة العلمية_ يتوجّب علينا إنشاء مشروع عملاق, يوظّف طاقات الشباب من جميع الفئات, وأنا أرى أنّ أفضل مشروع ممكن حاليّاً هو الزراعة واستصلاح الأراضي, فكما نعلم أنّ فقط 8% من أرض مصر مأهولة, ومساحة مصر تبلغ مليون كيلومتر مربّع, وهناك نهر النيل وطمي نهر النيل الآتي مع مياهه. وكما نعلم فمصر تستورد جزء كبير من غذائها, ومصر لديها الموارد و اليد العاملة والطاقات القادرة على تنفيذ مشروع بهذا الحجم, ومصر أساساً زراعية منذ الأزل, والفلاّح المصري هو رائد إنسانيّاً, وكما كان السدّ العالي في الخمسينات والستّينات مشروعاً قوميّاً وفّر فرص العمل لكثيرٍ من قطاعات الشباب, فمشروع الزراعة _ولأسمّيه مشروع ال"30%"كي نصل إلى 30% من مساحة مصر خضراء_ سيوفّر فرص عملٍ أكبر, حيث سيعمل فيه المهندسون _من جميع الاختصاصات_ وخبراء الريّ والزراعة والأطبّاء والمحاسبون وخبراء المساحة والجيولوجيا والشباب من كلّ الفئات, حيث لن يكون هناك عاطل عن العمل وستنشأ مدنٌ جديدة, وستكتفي مصر ذاتيّاً من الغذاء بل ستصدّر كذلك. أرى أنّ هذا هو المشروع القومي المناسب للفترة الحالية إلى جانب التعليم, حيث أنّ مصر غير قادرة حاليّاً على دخول خضمّ المنافسة التكنولوجية مع الدول الأخرى وهذا سيكون بعد عقود قليلة إن اهتممنا بالتعليم, ولكن الزراعة والأرض هي أساس النهضة الآنية الآن, وكلّ المقوّمات موجودة, والجينات النفسية للإنسان المصري عادت أقوى ممّا كانت, وهذه الجينات مرتبطة بالأرض والتراب والماء, وأرى مصر عربية قويّة في فترة قليلة مع اتّحادها مع محيطها العربي وإزالة ما يسمّى بالكيان الصهيوني الّذي سيغدو قريباً عبئاً استراتيجياً على الولايات المتّحدة أمام إرادة شعوب المنطقة, وستغدو إزالته سهلة بالنسبة لنا لنقوم وننهض بالأمّة ونناطح الكبار في هذا العالم.
حلم صغير _وإن كان كبيراً_ أردت إشارككم فيه, ومن يرى منكم أنّ فيه افكاراً مفيدة فأرجو أن ينشره كي تتمّ مناقشتها على نطاق أوسع, فقد يرمي الناس ما في دلائهم لنكوّن إلى جانب ما في دلوي ودلائكم بحاراً ومحيطات, وأخيراً أقول يحيا شهداء تونس ومصر, فلولاهم لما اكتملت الثورتان, ولولا صعود أرواحهم لما استمرّ تحدّي الناس ولما كانت إرادتهم صلدة كالماس لم يخدشها شيء, وأنهي مقالي بتحيّة الشهداء العظام ولجراح المصابين ولصمود الشعوب, وسأجلس قليلاً..

هناك تعليقان (٢):

walid sami يقول...

فى الحقيقة اسعدنى الاشتراك فى المدونة ؛ والتى ربما تكون أول مدونة اشترك بها
وأحب ان ابرز اعجابى بالمقال مع بعض التحفظات التى يتحدث بها الواقع
ولكن اتفقنا على الاطار العام ؛ اننا أمام ثورة شاملة وان الطليعة الشبابية هى القادرة على العبور بمصر الى أفاق بعيدة تناسب قدرها وتاريخها
والامة العربية معها استكمالا للمشروع الوحدوى العربى فى صيغة شعبية حديثة

تحياتى

ولاء نابلسي يقول...

أشكرك جدّاً, وأسعدني جدّاً اشتراكك في المدوّنة. وبالتأكيد فالغاية _غايتنا جميعاً_ هي الوصول بمصر والأمّة العربية الموحّدة إلى آفاق تناسب قدرها وتاريخها, والشباب سيكونون هم الأساس في ذلك الآن بعد أنّ تمّ تجميدهم وتحييدهم لعقود ممّا سبّب تأخّر الأمّة, أشكرك مجدّداً على مرورك