٩/٢٢/٢٠١١

دائرة

ملحوظة: كُتب هذا المقال أو هذه الرسالة أكثر من أربع مرّات ليخرج/تخرج بهذه الصيغة الّتي أرى أنّها لم تكن على مايرام كالنبيذ الّذي لم يُعتّق كفاية

عزيزتي, كتب جورج أورويل ذات مرّة: "إذا كان التحرّر يعني شيئاً فهو الحقّ في أن تقول للناس ما لا يودّون سماعه" وأودّ أن أضيف إلى مقولته أنّ التحرّر هو أن تقول شيئاً لم تكن تودّ لأحدٍ سماعه, لذا سأكتب إليك اليوم ما لم أكن أجرؤ على قوله جهراً في السابق. لا أدري لمَ لم تكن الجرأة حاضرة, ربّما كان ذلك لأنّني كنت أعتبر أنّ ما سأكتب عنه اليوم شعورٌ فرديٌّ خاصّ لا يدرك أبعاده إلاّ صاحبه, أو لأنّني اعتبرت أنّني لن أضيف شيئاً إليه بما أنّ أشجار غاباتٍ بمساحة قارّاتٍ قد تحوّلت إلى ورقٍ ليُكتب عليه عن الموضوع بكلّ اللغات الحيّة والميّتة والمريضة, وبكلّ طرق واتّجاهات الكتابة من اليمين إلى اليسار وبالعكس ومن الأعلى إلى الأسفل وبالعكس, وإن كانت هناك لغةٌ تُكتب بطريقة ثلاثية الأبعاد لما كان الفضاء الديكارتي ليتّسع للكلمات الّتي كُتبت وستُكتب عن ذلك الموضوع. وربّما كان بعض الخجل يا عزيزتي هو ما كان يمنعني عن الحديث أو الكتابة عن الموضوع, ولكن يبدو أنّ سقف جسارتي قد زال بزوال سقف ميدان التحرير فسقط كلّ ما كنت أعتبره "تابو". ولكن مهلاً,, يبدو أنّ الخجل مازال يعتريني حيث لم أذكر ماهية الموضوع إلى الآن بعد أكثر من عشرة سطور! والموضوع يا عزيزتي هو ما جعل ومازال يجعل القلوب تخفق والعقول تذوب, الموضوع هو ذلك الكائن أو الشعور أو المصير المُسمّى حبّاً.
ودوماً يا عزيزتي كنت أكوّن رأيي ورؤيتي عن أيّ أمر بعد النظر إليه من زواياه المختلفة, فأعرف عدد أضلاعه وشكله لأستنتج بعدها مساحته فأدركه, ولكنّني حين وقفت أمام الحبّ وجدتُ أنّ له أضلاعاً وزوايا لا نهاية لعددها, فمهما كانت الزاوية الّتي أنظر إليه منها أجد ذات المنظر وذات الشيء بفمهوم مختلف, ومن خلال ذلك أدركت إنّ كانت كل الأمور في حياتنا مضلّعة ينبغي إدراكها من خلال النظر إليها من زوايا عدّة فإنّ الحبّ هو مضلّع لا نهاية لعدد أضلاعه أو ببساطة هو دائرة, ندرك بنظرة واحدة أنّه هو لأنّه لا يختلف باختلاف الشخص أو الثقافة أو الحضارة, فالدوائر متشابهة دوماً ويكمن الاختلاف في مساحتها فقط, وبما أنّني أعتبر أنّ الدائرة هي أكمل الأشكال وأنّ كلّ شيءٍ في الكون يدور حول شيءٍ ما, فإنّني أظنّ أنّ الحبيبين لا يقعان في الحبّ كما نعتقد ولكن يدوران حول دائرة خلقاها وهي حبّهما فتكون كطاولة الملك آرثر المستديرة حيث الجميع متساوٍ فلا فضل لأحدٍ على أحد, وحين يتمّان ارتباطهما يدخلانها, والجميل أنّهما حين يدخلانها لن يجدا فيها زوايا ينحشر فيها أحدهما فيكون للآخر الأفضلية, وإن سمحتِ لي يا عزيزتي بالتوسّع سأقول أنّ الانتماء والهوية تحدّدهما دائرة كذلك, فإذا أحببتُ وطناً أو جماعةً عليّ الدخول إلى الدائرة الّتي تضمّ ذلك الوطن أو تلك الجماعة, فيتحدّد انتمائي بكوني داخل تلك الدائرة, ولكن هذا حديثٌ آخر. والغريب يا عزيزتي أنّ رمز ارتباط الحبيبين ودخولهما دائرة الحبّ _أي الزواج_ منذ عصر الرومان هو دائرة تحيط بالبنصر وتسمّى خاتماً أو "دبلة" باللغة الدارجة, كما أنّني أظنّ أنّ الأخ كيوبيد _إله الحبّ عندهم_ لم يكن يصوّب سهامه إلى ذلك الشكل الّذي نعتبره قلباً أو رمزاً للقلب, بل كان ككلّ الرماة المحترمين يصوّبها إلى هدفٍ دائري _ولو علم الناس إلامَ يرمز ذلك الشكل "القلبيّ" حقّاً لحدّوا من استخدامه!_, وإن كان الحبّ علماً له معايير وقوانين رياضية يا عزيزتي لكانت الدائرة هي محور ذلك العلم, لذا انتظري منّي يا عزيزتي كمّاً هائلاً من الدوائر الشاسعة الّتي يمكنها احتواء كونين أو ثلاثة, كما سأنتظر منك دوائر بمساحة مدار المذنّب هالي.
عزيزتي, كان يلفتني دوماً بيت أبي تمّام الّذي قال فيه
نقّل فؤادك حيث شئت من الهوى,,,,, ما الحبّ إلاّ للحبيب الأوّل
وكنت أستغرب كيف اعتبر الرجل أنّ حبّ المرء كعود الكبريت يشتعل مرّة واحدة فقط, ولكن حين تعمّقت في قراءة البيت وجدتُ أنّه لم يكن يقصد أنّ المرء حين يحبّ مرّة لن يحبّ مجدّداً, ولكن ما قصده كان أنّ المرء حين يُحِبّ (بكسر الحاء) ويُحَبّ (بفتحها) ستكون هي الأولى والوحيدة, حيث سيصبح حبيباً, والحبيب يختلف عن المحبوب, فالحبيب على وزن قريب, أي عندما تكون قريباً من شخصٍ ما سيكون هو بالضرورة قريباً منك بدوره, والحبيب كي يكون حبيب شخصٍ ما, على ذلك الشخص أن يكون حبيبه كذلك وإلاّ لكان محبوباً لا أكثر, فالعلاقة هنا ثنائية الاتّجاه, ومن هذا الحديث عن القرب المتبادل والاتّجاه الثنائي أنتقل يا عزيزتي إلى تصوّرٍ عن الطريقة المُثلى للتعامل والتفاعل بين حبيبين, حيث أتخيّل أنّ الحبيبين _أعتذر على التعبير_ برميلان, وأنّ على كلّ برميلٍ فيهما ملء الآخر دون الالتفات إن امتلأ هو, بمعنى آخر لا ينبغي على الحبيب انتظار أيّ شيءٍ من حبيبه وعليه العطاء فقط, فإذا اتّبع الحبيبان مفهوم العطاء الصرف هذا وتنافسا فيه سنجد أنّ كلا الحبيبين سيأخذان كفايتهما وسيُملأ البرميلان, أمّا إن انتظر أحد البرميلين أن يُملأ ولم يقم بدوره في في ملء البرميل الآخر سنجد أنّ نصف مياه البرميلين قد انسكبت على الأرض وهُدر نصف الحبّ بينهما قبل أن يُهدر كلّه مع الزمن مع فقدان البرميل الثاني لمائه حيث أنّه لم يُملأ وكما يقولون فاقد الشيء لا يعطيه. فلِيكون الحبّ أصيلاً عليه أن يكون على سويّة واحدة بين الحبيبين كالماء في تجربة الأواني المستطرقة أو كسطح ماء جميع البحار حيث سطحها جميعاً على سويّة واحدة مهما اختلفت أعمقاها. وقبل أن أختم أودّ القول أنّ المرء يكون ضعيفاً إن لم يكن الحبّ أقوى منه, وقوّة الحبّ هي ما تحمي كرامة المرء وكرامة حبيبه, فبنفس مفهوم العطاء يقوم كلّ حبيبٍ بحماية كرامة حبيبه, فتُصان الكرامتان الّتان تشكّلان عملياً كرامة واحدة. وفي النهاية يا عزيزتي أقول أنّ للحبّ أضلاع لا نهاية لعددها كما أسلفت, فلا يمكن استيعاب مفهومه أو قول كلّ شيءٍ عنه من خلال رسائل أو مقالات وإن بلغ عدد كلماتها عدد ذرّات الكون, لذا لا يمكنني قول كلّ شيء مهما تحدّثت, ولكنّني أعدك أنّني سأحدّثك عن الكثير عنه في حياتنا وفيما بعد حياتنا, دائرتي تتّسع دوماً بابتسامتك,,, دائرة يخترقها سهم