٦/١٨/٢٠١١

هالسيّارة مش عمبتمشي

أبدأ اليوم رحلتي في استكشاف جبل الجليد الّذي يعيق إبحار سفينتنا كعرب ويهدّد بإغراقها, فبعد أن نوّهت في مقدّمة هذه السلسلة إلى أنّ إنزال علم القرصان المستبدّ من على السارية هو البداية لانطلاقة حسنة للسفينة أبدأ الرحلة بإلقاء نظرة حولنا لأرى الفرق بين سفينتنا والسفن الأخرى, فدولة ككوريا الجنوبية مثلاً _الّتي تشكّل نصف أمّة, ويبلغ عدد سكّانها حوالي 50 مليون نسمة, وليس فيها موارد طبيعية تذكر_ يبلغ ناتجها القومي السنوي 1.5 تريليون دولار أمريكي مقارنة ب2.2 تريلون دولار وهو الناتج القومي السنوي للدول الوطن العربي مجتمعة الّتي يبلغ عدد سكّانها أكثر من 350 مليون نسمة, وفيه من النفط وحده أكثر من نصف احتياطي العالم, ناهيك عن الموارد الأخرى والامتداد والموقع*. وهنا أتساءل عن السبب الّذي يجعل نصف أمّة صغيرة فقيرة الموارد تكاد تضاهي في ناتجها القومي أمّة كبيرة غنيّة, طبعاً لا داعي لذكر أنّ غالبية الناتج القومي العربي يأتي من الموارد الطبيعية والموقع فقط, ولا داعي لذكر أنّ نسبة كبيرة من الناتج القومي العربي يذهب إلى شركات النفط الغربية الّتي تحتكر استخراجه! وقد قمت باختيار كوريا الجنوبية لتشابه واقع التقسيم والحروب المستمرة تاريخياً مع واقع الوطن العربي, ولم يقع اختياري على دولة كاليابان أو فرنسا أو بريطانيا كي لا تغرق سفينتنا في بحر دموعنا.
وعلى سبيل زيادة جرعة الأسى أودّ ذكر نتائج بعض الإحصاءات والدراسات الّتي قامت بها اليونيسكو (منظمة الأمم المتّحدة للتربية والعلم والثقافة), والّتي جاء فيها أنّ إصدارات الكتب في الوطن العربي ككلّ لا تتجاوز 11 ألف عنوانٍ جديدٍ سنوياً, بينما في كوريا الجنوبية تبلغ أكثر من 40 ألف عنوان جديد, وفي إيران 65 ألف عنوان جديد, مع العلم أنّه إذا تجاوزت نسبة توزيع كتابٍ ما الثلاثة آلاف نسخة فإنّها تعتبر نسبة مهولة في الوطن العربي! وطبعاً لا نريد الخوض في أنّ معدّل قراءة الفرد العربي لا تتجاوز ربع صفحة سنوياً, بينما يبلغ معدّل قراءة الفرد البريطاني سبعة كتب والأمريكي 11 كتاباً, ولا في نسبة الأمّية في الوطن العربي الّتي تبغ 30%, فلو خضنا في هذا فكأنّنا نخوض في الأعراض! هل هذا يليق بأمّة يعتنق أغلب أفرادها ديناً كانت أوّل كلمة وأوّل أمرٍ نزل فيه هو "اقرأ"؟!
أردت ذكر تلك الحقائق قبل أن أبدأ الاستكشاف لندرك مدى هول الجبل الجليدي الّذي تعيق أجزاؤه تقدّمنا, وسأذكر في كلّ مقال في هذه السلسلة جانباً من تلك المعوّقات, وبعد أن ذكرت في مقدّمة السلسلة جانب الاستبداد والديكتاتورية سأذكر في هذا المقال جانباً دقيقاً قد يعترض كثيرون على ذكره وهو الجانب الديني ومدى تأثير الدين على تقدّم وتأخّر هذه الأمّة. فكما نعلم أنّ العرب قبل بعثة النبي محمّد عليه الصلاة والسلام كانوا لا يشكّلون دولة أو أمّة بالمعنى الحقيقي, فقد كانوا قبائل تنتشر هنا وهناك في الجزيرة العربية تتنازع دولتا الفرس والروم على بسط السيطرة عليها, ولكن بعد بعثة الرسول, جاء عامل جديد قام بتشكيل رابط قوي يجمع هذه القبائل المتناحرة في رباط لتشكّل أمّة فيما بينها, فالإسلام لم ينزل كدينٍ فحسب بل نزل ومعه نواة قوانين تنظيمية في المجالات الاجتماعية والاقتصادية والإدارية وغيرها, وبهذا حصل العرب دون جهد على إطارٍ تنظيمي ينظّم حركة الأمّة العربية ويشكّل نوعاً من أنواع الدساتير يعود إليه القائمون على تسيير شؤون الدولة, وحتّى من لا يؤمن بالإسلام كدينٍ سماوي لا يمكنه إنكار أنّ الإسلام شكلّ الإطار الجامع والمنظّم لحركة سير وتقدّم وتطوّر الأمّة العربية في قرونه الأولى, وهنا أريد وضع تشبيه غريب نوعاً حيث أشبّه الأمم بمجموعات من الأشخاص تتقدّم جميعها على طريق الحضارة سيراً على الأقدام, وقد تسبق مجموعةٌ ما المجموعات الأخرى بشكلٍ بسيط فتتعثّر قليلاً فتسبقها مجموعة أخرى وهكذا, و لكن عندما نزل الإسلام في ربوع بلاد العرب, كان بمثابة سيّارة تنقل العرب ومن دخل معهم الإسلام بشكلٍ أسرع إلى الأمام, فيسبقون بها الأمم الأخرى على طريق الحضارة, ويصبح المسلمون متقدّمين في ركب الحضارة حيث شكّل الإسلام وما جاء معه من قوانين ناظمة سرّعت النمو الاجتماعي والاقتصادي والسياسي في العالم العربي كالسيّارة تماماً, وهذا ما كان في القرون الأولى للأمّة العربية الإسلامية, حيث غدت بلاد العرب والمسلمين الممتدّة من حدود الصين حتّى إسبانيا مركز الإشعاع الحضاري في العالم, وإذا كانت هناك كائنات تسكن الفضاء لكانت رأت حينها من السماء أنّ بقع النور في الليل على كوكب الأرض تتناثر في معظمها على مساحة المنطقة العربية والإسلامية. ولكن بعد قرونٍ قليلة تعطّلت مسيرة تلك السيّارة فتعطّل تقدّم من فيها, وأسباب التعطّل كثيرة ومختلفة, فهناك من استلم مقود القيادة وهو لا يعرف كيف يقود أساساً وبذلك ظهر مصطلح "رجل الدين" الّذي لم يكن موجوداً في القرون القليلة الأولى بعد الإسلام, فاستلم رجال الدين بالاشتراك مع الحكّام مقود السّيارة وهم لا يعرفون القيادة, وأشاحوا بنظرهم عن الطريق أمامهم وأصبحت أنظارهم معلّقة بالمرآة الخلفية حيث أصبح همّهم هو النظر إلى الخلف فقط ونسوا الطريق أمامهم, كما سُرق محرّك السيّارة وهو جوهر الإسلام وأصبحت السيّارة بهيكلها الخارجي فقط, وظهر مصطلح "المظهر الإسلامي" وكأنّ اللحية والجلباب هي ما يجعل من المرء مسلماً ونسوا أنّه لم يكن هناك في الأيّام الأولى للإسلام ما يسمّى بالمظهر الإسلامي, كما نفذ وقود السيّارة الّذي يقوم مقام الإيمان, حيث انحصر الإسلام بوصفٍ يصف به الشخص نفسه, أو عصبية جاهلية ينتمي إليها ليشعر بالحماية في كنفها فقط, كما ظهر أشخاص يدفعون السيّارة إلى الخلف بقوّة, وهؤلاء هم الطائفيون, الّذين يريدون أن يكون ركّاب السيّارة ممّن يدينون لهم هم بالولاء وليس لله, ويريدون أن يكون لونها كما يريدون, ويحاولون بقوّة إعادتها من حيث أتت, وهؤلاء هم أخطر شيء على السيّارة وركّابها, وهم من سيسقطونها في الهاوية إن لم يوقفهم أحدٌ ما. وللأسف كثيرٌ من ركّاب السيّارة رضخوا لكلّ هؤلاء, وقد زاد تطرّف البعض منهم إلى أن سقط من على حافّة الدين, فقد عادوا بنا إلى الجاهلية الأولى لنكون قبائل متصارعة, تسيطر علينا وتلهو بنا القوى الخارجية, وللأسف قلّما نجد من يريد السير بالسيّارة إلى الأمام واستخدامها في الغاية الّتي صُنعت من أجلها, وكما أرىفلم يعد هنالك سوى حلّين لنضمن السير قدماً, الأوّل هو الترجّل وترك السيّارة والسير على الأقدام في طريق التطوّر, ولكن هذا الحلّ سيّئ وغير عملي بالمرّة, حيث سبقتنا الأمم الأخرى بأشواطٍ كثيرة, ولن نستطيع اللحاق بها سيراً على الأقدام أبداً, والحلّ الثاني _وهو الصواب_ يتمثّل في إصلاح السيّارة وطرد كلّ من لا يريد لها القيام بعملها, فإن كانوا يريدون العودة إلى الخلف فليعودوا مشياً, وهم لا ينتمون إلى ركّاب السيّارة, فهي قد وُجدت من أجل التقدّم والتطوّر, والوصول إلى نهاية الطريق والغاية بسلام, ولا يستحقّ من يريد لها الخراب أن يكون فيها وأن يُعتبر من ركّابها, وكي أكون واضحاً فعلينا أن نختار بين الدين الّذي أتانا من "الحجاز" قبل 14 قرناً وبين الدين الّذي يأتينا من "السعودية" الآن!
ولنستمع لأغنية فيروز "هالسيّارة مش عمتمشي"
--------------------
*ببحث صغير عبر الانترنت يمكن التأكّد أنّ جميع الإحصائيات والمعلومات في هذا المقال حقيقيّة
كما أتمنّى منكم نشر المقال فقد يعود ببعض الفائدة لمن يقرؤه

ليست هناك تعليقات: