٧/٠٤/٢٠١٠

سكّة السلامة

هناك اعتقاد خاطئ عند كثيرين منّا أنّه "كما تكونوا يولّى عليكم", و أنّ الشعب الرخو الجاهل يُفرز قيادةً مريضةً لا تكون مهيّأة ولا قادرة على القيام بدورها في المضيّ بنجاح في مسيرة هذا الشعب أو تلك الأمّة. بدايةً أنا لا أرى أنّ هناك أمماً وشعوباً رخوة جاهلة و شعوباً قويّة مستنيرة, فالأمم هي الأمم مهما اختلفت ثقافاتها فهي لا تختلف في الخصائص الأساسية المشتركة بين جميع الأمم من حيث كونها جماعات بشرية يحكمها الوعي واللاوعي الجمعي و من حيث مدى تأثّرها وتفاعلها مع محيطها ومع نفسها وقابليّتها للتطوّر, وهذا ما يقودنا إلى التساؤل عن السبب الّذي يجعل وفي فترة معيّنة من الزمن أمماً تتقدّم ثقافياً و علمياً واقتصادياً وعسكرياً على أممٍ أخرى رغم أنّ خصائص الأمم من حيث قابليّتها للتطوّر واحدة.
لديّ نظريّة وتصوّر عن هذا الموضوع وهي أنّ الأمّة تشبه القطار, حيث له وجهة محدّدة من خلال سيره على سكّة ذات اتّجاه واحد, ويتألّف هذا القطار من قاطرة _دينمو_ وهي القيادة ومقطورة وهي بقيّة الأمّة, وبما أنّ وجهة القطار محدّدة سلفاً فإنّ قاطرته أو قيادته هي من تتحكّم بسرعة توجّهه إلى هذه الوجهة ويمكنها أن توقفه كذلك أو تسير به إلى الخلف, أو حتّى تنقلب به وتعطبه و تُفنيه, ومن هنا أرى أنّ العامل الأساسي في نهضة أيّ أمّة هو قيادتها أو رأسها, فمهما بدت الأمّة واهنة و ضعيفة, ما أن تظهر فيها القيادة المناسبة تُبدي تطوّراً في جميع المجالات, لأنّ القيادة هي من تلهم شعب وأفراد هذه الأمّة, فالجماعات البشرية تحتاج دوماً وبشكل غريزي إلى من يقودها ويلهمها وينظّمها, ويرسم أحلامها, ويحدّد لها نمط مسيرتها وتطوّرها وذلك بسبب تفاوت تفكير أفراد هذه الأمّة, فيحتاجون إلى فكر موحّد ناظم. ما يساعد في فهم هذا التصوّر هو متابعة تطوّر الأمم عبر التاريخ وأوقات ازدهارها وانحطاطها, فلو نظرنا أوّلاً إلى وضعنا كعرب وكأمّة عربية قبل ظهور الرسول محمّد عليه الصلاة والسلام, نجد أنّ العرب لم يكونوا يشكّلون أمّة بالمعنى الحقيقي, بل كانوا مجموعة من القبائل تتوزّع في منطقة شبه الجزيرة العربيّة, وكان اقتصادهم يتوزّع بين الرعي والتجارة الفردية, وحياتهم الثقافية تتلخّص في بعض الندوات الشعرية, وحياتهم العسكرية ملخّصها بعض الحروب والغزوات بين بعضهم البعض. وكانت معظم القبائل تابعة أو تدور في فلك الدول الكبرى حينها مثل الغساسنة التابعين لدولة الروم, والمناذرة التابعين لدولة الفرس, ولكن ظهور القائد حينها وهو الرسول الكريم وما حمله من فكر ورؤية وإرادة على النهوض بهذه الأمّة, جعلها تنهض عسكريّاً وثقافيّاً وسياسيّاً واقتصادياً لأنّه ألهم أفراد هذه الأمّة ووجّههم نحو هدف, ربّما قال البعض أنّ القوّة والقدرة الإلهية كانت معه وساعدته وحقّقت له رؤيته, ولكن حين نتعمّق في هذه المسألة نجد أنّ الله قادر على تحقيق ذلك في دقيقة وبفاعليّة كن فيكون, ولكنّ الله أراد فقط أن يضع الإرادة والرؤيا في رسوله الّذي سخّرهما لينتشل أمّة من الحضيض, ونحن نرى أنّ الناس بعد بعثة الرسول هم نفسهم كانوا قبل بعثته ولكن ما تغيّر هو القيادة والقاطرة الّتي تسيّر القطار وجعلته يتقدّم. كما نرى أنّ نهضات وانكسارات الأمّة العربية والدولة الإسلامية على مدى تاريخها ترتبط بمدى فاعليّة قيادتها, فبقوّة القيادة واستنارتها قويت وبضعفها وجهلها ضعفت. وعندما ننظر إلى التاريخ الغربي نرى أنّ التطوّر الحاصل الآن هناك سببه أنّ الغرب في القرون القليلة الماضية حكمه بعض الحكّام الأقوياء والّذين يبحثون عن مصالح شعوبهم وأممهم, وليس ذلك فحسب بل إنّ هؤلاء الحكّام طوّروا على مدى تتابعهم قوانين وأسس تؤدّي إلى مجيء قيادات قويّة تهتمّ بمصالح هذه الأمم عن طريق اختيار الشعوب لهذه القيادات, فأصبح همّ هذه القيادات النهوض بهذه الأمم لإرضاء من يأتي بهم إلى الحكم, فمن لا يكون قادراً على النهوض بالأمّة لا يحكم. في العصر الحديث وخلال ربّما الخمسمئة سنة الماضية حكم العرب القليل جدّاً من الحكّام الّذين كان لديهم هدف النهوض بالأمّة, ربّما بداية بمحمّد علي في مصر الّذي لم يكن عربياً ولكنّه فعلاً حاول النهوض بالأمّة العربية من خلال محاولته السيطرة على الحجاز وشبه الجزيرة وبلاد الشام من يد العثمانيين انطلاقاً من مصر بقيادة ابنه إبراهيم, ولكنّ مشروعه انكفأ بسبب تظافر جميع القوى الخارجية ضدّه وعدم رغبتها في قيام كيان جديد قويّ يجعلها تعيد حساباتها, و بسبب غضّ محمّد علي نفسه النظر عن مشروعه الكبير في سبيل الاحتفاظ بحكم مصر فقط له ولسلالته من بعده. وربّما يختلف معي البعض على أنّ جمال عبد الناصر يمثّل قيادة تاريخية للأمّة العربية ككلّ, وذلك بسبب التشويه الّذي تعرّض له الرجل في العقود الّتي تلت وفاته, فعبد الناصر كان لديه الرؤيا والهدف في أنّ هذه الأمّة يجب أن تنهض عن طريق المشروع الوحدوي, واستغلّ عبد الناصر كاريزمته في حثّ أفراد الشعب العربي من المحيط إلى الخليج للإيمان أنّ الطريق الوحيد للنهضة هو الوحدة, وكان لدوره على امتداد الوطن العربي والعالم أيضاً عن طريق منظّمة الحياد الإيجابي ودعم حركات التحرّر عميق الأثر في قلق الدول المهيمنة من جدّية مشروعه و من أنّه فعلاً قائد محبوب ومؤثّر على مستوى الأغلبية الساحقة من الشعب العربي, وكان أيضاً لإمكانات مصر البشرية وموقعها دورٌ في هذا, مع ترتيب الخارطة العالمية بعد الحرب العالمية الثانية, فأرادت هذه الدول أن تجهض مشروعه, وفعلاً كادت أن تفعل سنة 1967 ولكنّ لأنّ أفراد الأمّة كانوا يؤمنون بمشروعه الوحدوي النهضوي لم يسقط هذا المشروع تماماً وحاول النهوض به من جديد في السنوات الثلاث قبل وفاته, ولكنّ هذا المشروع تجمّد مع رحيله, وذلك لأنّ أكبر أخطاء وخطايا عبد الناصر أنّه لم يضع منهج و أسس لاختيار القادة الّذين يعبّرون عن أفكار أمّة قويّة و يعملون لنهضتها.
وهكذا أرى أنّ قيادات الأمم هي مفتاح نهضتها وقوّتها, وكلّما كانت هذه القيادات تعبّر عن أفكار شعوبها وملتصقة بها أكثر و خارجة من رحمها, كلّما كانت تعمل على نهضة الأمّة وإخراجها من بوتقة الحضيض عن طريق وضع أهداف لهذه الأمّة. و يجب أن تُوضع أسس لظهور قيادات من ذلك النوع على مستوى العالم العربي, تقوم بإلهامنا نحن العرب للتوحّد والنهوض, لأنّ التشرذم هو أحد أهمّ أسباب سقطاتنا و ضعفنا, وحتّى لا يُقال لنا يوماً "كما تكونوا يولّى عليكم", وكي يصل القطار إلى محطّته سالماً و في موعده تماماً, فهناك أجيال أخرى بانتظاره.

ليست هناك تعليقات: